الأربعاء، 3 أغسطس 2016

الكبتاجون.. المتهم الأول بالإرهاب!

تعتمد بعض الدوائر في محاولتها لفهم سلوك ودوافع الجماعات المتطرفة على طريقة بدائية في تحليل الأحداث، فهي تحاول جاهدة -وبأقصى الممكن- تسخيف الأفعال الصادرة عن هذه التنظيمات وتسطيح الخلفيات القادمين منها أفرادها، من كونهم متعاطين للمخدرات، وتاركين للصلاة، إلى كونهم لا يظهرون بمظاهر متديِّنة، إلى آخره.

المستفيد من هذه التقييمات فريقان: التيار الديني بالعموم، الذي يجيد تخليص نفسه باستمرار كلَّ مرة بتبنِّيه دفاعًا مفتوحًا في محاولته للتنصّل من أي مسؤولية، ولو على مستوى إعادة فهم التراث من زواية مدى تطابق أفعال ومبررات تلك الجماعات وتلاقيها مع النّصوص والفتاوى المعتمدة لدى هذه التّيارات، هذا مع تجاوز وقائع التعاطف الصريح والمعطوف والخفي.

أما الفريق الثاني فهو الفريق الذي يخدم الدعاية التقليدية، الحكومية غالبًا، والذي يحاول من خلال اعتماد طريقة الفهم هذه التَّغطية على مشكلات قائمة؛ فعندما يقول أن أولئك الإرهابيون ماهم إلا أصحاب سوابق جنائية/أخلاقية، أو كونهم من مدمني المخدرات، فهو يحسم النقاش بهذه النتيجة التوفيقية متجاوزًا حتى الأساليب المعمول بها أصلاً لدى تلك الجماعات، وهو بهذا التسطيح يتغاضى عن حالة بحثية مهمة لربما تكشف لنا طريقة تفكير أولئك الإرهابيين.

يذكر أستاذ التحقيقات الإعلامية الاستقصائية في العالم العربي «يسري فودة»، في كتابه “في طريق الأذى”، أنه أثناء مغامرته الشهيرة في ٢٠٠٢ وصولاً إلى تنظيم القاعدة في بيشاور ولقاءه اثنين من أهم الشخصيات بالتنظيم، كان قد اتَّفق مع أحد الوسطاء الذين أرسلهم التنظيم على اللقاء يوم الجمعة. أخبره الوسيط ألا يغادر غرفة الفندق أبدًا حتى الموعد، عندها بادره «فودة» بسؤال حول رغبته شهود صلاة الجمعة، ليرد عليه وسيط القاعدة واثقًا: “سيغفر لك الله!”.

هذه الوثوقيَّة دفعت «فودة» للتساؤل: من الذي أعطى هؤلاء الحق في تقرير المغفرة من عدمها لشهود صلاة كصلاة الجمعة؟ ولمن؟ لصحفي، لا يشارك في معركة وليس في حكم صلاة الخائف؟! ثم إلى أى مدى يمكن أن يصل احتكار هذا الحق؟ ومن يتحكَّم به؟ ثم ماهو الفرق بينهم وبين تلك المذاهب الدينية التي يتهمها هؤلاء “بتمييع” الدين؟ أين «السلفية» المزعومة إذًا؟ وعند أي منعطف يمكن التخلِّي عن النص؟ وماهو الفرق بين الدول الغربية في زعمها التزامها حقوق الإنسان، وبين هؤلاء وزعمهم التدين؟

كل هذه الأسئلة اندفعت مرة واحدة في عقل «فودة» الذي ظلّ ملتزمًا بتعليمات هذا الوسيط حتى نجح في الوصول إلى مجلس القاعدة في اليوم التالي، حيث أعلن القائد العسكري أمامه، ولأول مرة حينها، تبنِّي التنظيم لاعتداء الحادي عشر من سبتمبر الشهير، وبعد وقت قصير، اكتشف «فودة» أن التنظيم كان قد ألزم اثنين من المنفِّذين بتعليمات تقضي بأن ينخرطوا في طريقة الحياة الأمريكية، حيث لا يشكُّ بهم أحد. لقد قرَّرت القاعدة لهذان “الإخوة”، الذان “يجاهدان في سبيل الله” أن يتعلَّما العادات والتقاليد المحلية في الولاية التي كانوا يعيشون فيها، وطريقة شرب الكحول ومسامرة الفتيات، لغرض التمويه والتغطية على تحرّكاتهم. لقد كان هذا مدوَّنا بالحرف في ورقة تركوها في متناوله.

إذن، هذه رخصة “سبيشل” اتبعها التنظيم الأكثر تشددًا مع منفذي الهجمات الأشهر في تاريخنا الحديث، وهي توضّح إلى أي حد يمكن أن يذهب هؤلاء في تطويع تعاليم الدين لصالح تنفيذ غاياتهم، حيث اللّا حد!

إن سردًا قصصيًا كهذا من مذكرات صحفي استقصائي، ورغم كونه نقلاً لتجربة واقعية، لا يرقى إلى كونه بحثًا معرفيًا في مشوارنا لفهم طريقة تفكير أولئك، لكنه يوضّح بجلاء أنه ثمة تفسيرات أخرى يمكن التطرّق إليها خلف تلك الأعمال، بعيدًا عن تلك التي يُراد أن تبقى في الواجهة. وعندما نفهم بشكل جيّد سنعمل بشكل جيّد، وسنصل إلى جذر المشكلة بشكل أدق وصولاً إلى نتائج أكثر واقعية.

الأربعاء، 27 يوليو 2016

الإسلاميون.. الهرب إلى الديمقراطية، أم الهرب منها؟


- نُشر في صحيفة إيوان24 بتاريخ الخميس 28 يوليو 2016.

بكتابة هذه السطور، يكون قد مرّ على محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عشرة أيام، ويكون الكثير من المتهمين بمحاولة الانقلاب هذه قابعين في السجن بانتظار المحاكمة التي ستفضي بهم إلى البراءة أو أحكام بالسجن، أو -بعد تمريره في البرلمان- الإعدام. تبدو العزيمة واضحة ونهائية من الحكومة الحالية المنتخبة، إلى جانب المعارضة، على مواجهة كلّ ماله صلة بمحاولة الانقلاب هذه. هذا في تركيا، أما في فضاء المواقف وردات الفعل، فالأمر لم ينتهي بعد؛ ففي لحظات تاريخية كهذه يجدر بالحكيم الوقوف طويلاً، بتمعّنٍ فاحص، أمام كل ما يقوله الناس إزائها، متمسّكًا بالحقيقة غير مكترث بالتعصّب الذي لا دواء له؛ فالحقيقة انعكاسٌ “للأشياء” قبل الخوض في الحكم عليها، كما يعبّر روسو.

أما قبل، ولأن بعض أولئك يتقنون الاجتزاء، فأريد أن أقرِّر ثلاثة أمور: أولاً: أن ما حدث في تركيا ليلة ١٥ من يوليو هو انقلاب عسكري غاشم كامل الأركان على الديمقراطية والمؤسسات المدنية، يرفضه كل حر ونزيه بلا تململ ومواربة. وثانيًا: أردوغان، هو الرئيس الشرعي المنتخب لتركيا اليوم، وهو الوجه المدني في مقابل آخرَ عسكري. وثالثًا: الوقوف مع الحكم المدني الديمقراطي، لا يعني بالضرورة، مناصرة الحزب الحاكم، أو تفضيل أردوغان، بل يعني الحسم والانحياز النهائي مع حكم الشعب وحقّه في تقرير المصير. *عد إلى مقالي: الاشتباك حتى الموت

أما بعد، فلا يستطيع أحد مفارقة حقيقة أن الحكم القائم اليوم في تركيا هو الرِّهان الوحيد للطيف الإسلاموي خلال هذا العقد، تبدو حالة اصطفاف رهيبة لم تحدث من قبل لرجلٍ بشروط أردوغان، فباستثناء المؤسسات الدينية الرسمية التي تنطق مباشرة باسم الحكومات، هناك قبول عام خفي أو ظاهر لدى السلفيين والإخوان -كأيدولوجيا- والذين بين بين والأبعد منهم والأدنى، يتراجع هذا القبول أو يزيد، إلا أنهم يلتفون حوله في اللحظة الحرجة ويسخِّرون أنفسهم وأدواتهم من أجله في مشهد براغماتي بحت لا يشترط فيه الأخلاق بالتأكيد، إنها سياسةٌ إذًا، لا تلغيها مظاهر الزهد والتواضع، بل تؤكدها.

في سبتمبر من ٢٠١١ ذهب أردوغان إلى مصر، وخاطبهم هناك متحدثًا عن العلمانية النِّسبية، لقد قال أردوغان في لقاءه الشهير مع منى الشاذلي واصفًا “الدولة العلمانية” أنها تكفل حق المساوة بين المواطنين “المتدينين وغير المتدينين، ومن هم ضد الدين، وأصحاب الأديان الأخرى”، ثم أضاف: “وهذه المساواة تحت ضمانتنا، ولابد من القائمين على إعداد الدستور -الدستور المصري آنذاك- أن يذكروا هذا فيه”، إذًا أردوغان هنا يقرُّ صراحة بضرورة أن تكون الدولة علمانية. هذا التصريح دفع كثيرًا من الإسلاميين في مصر لاتخاذ موقف، أحدها أنه لا يفهم ما يدور في مصر، المحاججة التي اتضح فشلها في يوليو ٢٠١٣ أثناء انقلاب عبد الفتاح السيسي عليهم.

في ٢٠٠٢ كذلك، وفي لقاء حاشد بطلبة جامعيين، قال أردوغان جوابًا على سؤال لأحد الطلبة حول المثلية: “من الضروري أن يتم الاعتراف بالمثليَّة، وأعتقد أنه تجب حمايتهم بالقانون، وأرى أن المعاملة التي يعاملون بها في وسائل الإعلام غير إنسانية”. في يونيو الماضي ٢٠١٦، دعا أردوغان المطربة والممثلة التركية «بولنت أرسوي» على مائدة إفطار رمضانية، وهي من أشهر المتحوِّلين جنسيًا في تركيا، حيث نقلت وسائل الإعلام عدة صورًا له يتوسط مائدة بينها وبين زوجته السيدة «أمينة»، لا ننسى هنا أن القانون التركي لا يُجرِّم المثلية بين “بالغين بالتراضي”، ١٨ عام فما فوق.

يستند الإسلاميون في دعمهم لأردوغان على دعايات يتقنها الرجل، ومظاهر وشعارات وقعوا فيها؛ خذ مثالاً العبارة الأخيرة التي وصف فيها أردوغان الجيش الأول وبقية الوحدات التي لم تنقلب عليه: “أنتم جند محمد”، أو المشهد المصوَّر له في أحد الجوامع وهو يوجه نصيحة لأحدهم بالإقلاع عن التدخين في “يوم الجمعة المبارك”، أو الأذان المنسوب له في مسجد والذي بثَّته قناة مقربة، إلى جانب أزياء وتصاوير مأخوذة من عهد الخلافة العثمانية تقف في قصره الرئاسي وأثناء زيارة زعماء العالم، هذا -بتوصيف غير مخل- أكثر ما يغري الإسلاميين، الدِّعاية. كما لا نستطيع إغفال، وبدرجة تالية، إلحاحهم في الإشادة بالاقتصاد القوي الذي نجح في تدعيمه، وهذا أمر يستحق الإشادة، وترويجهم لمواقفه من نظام الأسد في سوريا والانقلاب في مصر، لكنها جميعًا، يستطيع أي رجل آخر من أي خلفية آيدولوجية أخرى العمل على تحقيقها، بمعنى أنه التزم وحزبه وفريقه العمل السياسي والاقتصادي بالبعد المهني تحت مظلَّة دولة علمانية يُبشّر بها، حيث لم تكن تلك الوعود الرائجة والشعارات الرَّنانة إلا لغرض الحشد والجماهيرية التي يسعى لها كل زعيم. هل اتضح الفرق الآن؟

في نفس الوقت الذي يدافع فيه كثير من الإسلاميين عن فوز أردوغان ونتائج الصندوق وحتمية الانتخاب الحر، وهذا استحقاق طبيعي، سنجدهم لاحقًا يبرِّرون قبولهم بالديمقراطية على أنها “مرحلة” فقط لما بعدها. هم يتشوَّفون لما بعد الديمقراطية، العودة إلى الامبراطورية العثمانية، أمجاد الخلافة، أي شيء ماضوي آخر سابق على الدولة الحديثة، على الرغم من أن الدولة العثمانية لم تكن "تطبِّق الشريعة" بالضرورة بالمفهوم الذي يتصوّرونه، لكنه اطمئنان لمخيال قديم لا أكثر، وهنا يحاولون تتبُّع هذا المخيال عبر تصريحات هنا وصور هناك. إذًا فدفاعهم المستميت السابق هو عبارة عن ادعاء؛ فالذي "يؤمن" بالديمقراطية سيؤكد -بشكل بدهي- على حتمية الدولة الحديثة كتطوّر تاريخي، إلا أننا نجد أحدهم ضمن مشهد هزلي من الكوميديا السوداء، وهو وجدي غنيم المعروف بإسرافه في التكفير، يقطع بكفر الديمقراطية، وكفر العلمانية والعلمانيين، وينفي حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، اللَّذان هما كفر بالطبع، ثم يدعو بالنصر المؤزر لتركيا العلمانية وأردوغان الذي جاء عبر عملية ديمقراطية.

ناصر العمر، المعروف بانخراطه في قضايا "الاحتساب" ووقوفه وجماعته ضدّ قيادة المرأة والمحافل الفنية والنشاطات الثقافية، نجده على تويتر ينقل فتوى عن "شيخه" يقول فيها الأخير أن الذين فرحوا بالانقلاب إما "كافر أو جاهل أو صاحب هوى”. فأي منطق يصدر عنه هؤلاء؟ وهل يروننا بهذا الحد من السذاجة والحموريَّة لدرجة أن نتخيَّل أنهم هم أنفسهم الذين يعادون الحريات والمرأة والفنون والثقافة ويستعدون السلطة على خصومهم، سينتصرون للديمقراطية في تركيا؟! هم بالتأكيد محلّ سخرية لدى كثير من السياسيين الأتراك، على رأسهم حزب العدالة والتنمية نفسه، إلا أن هذا لا يمنع السياسي هناك من استغلالهم، ويا لسعد من استغلّ أمثال هؤلاء!

يجادل الإسلاميون كثيرًا حول شرعية الصندوق، نعم؛ الصندوق هو أحد مراحل العملية الديمقراطية، وهو يعكس آلية الانتخاب الحر للشعب لمن يختارونه ممثلاً عنهم، لكن الديمقراطية لا تتوقف عند هذه المرحلة، بل هناك قيم عامة وفضاء يسمح بالتعدّدية والاختلاف يجب أن يكون حاضرًا لضمان الرقابة على بقية المراحل، تتمثل في البرلمان/مجلس الشعب والمحكمة الدستورية إلى جانب كفل حرية التعبير والإعلام والتظاهر السلمي، كل هذه الوسائل تضمن حقَّ المحكومين بإزاء الحاكم الذي اختاروه، وهذه كلها، يقف الإسلاميون إلى جانبها عندما تكون إلى جانبهم، ويغادرونها ويتنكَّرون لها تمامًا عندما تعمل على مسائلتهم والحد من قدراتهم.

يجب على الإسلاميين عندما يرفعون أصواتهم ضدَّ الاعتقالات التعسفية التي تطال رموزهم في مصر وغيرها، أن يتوقفوا ولو قليلاً أمام مشهد تهم الإرهاب الجماعية الذي نراه اليوم في تركيا، عندما يتم وصف ٢١٦٠٠ ممن تم سحب جوازاتهم بـ “الإرهابيين”، حسب موقع مقرب من الحكومة، بالتزامن مع حملة “تطهيرية” وإقالة لآلاف من منسوبي التعليم واستدعاء عام للأكاديميين. إذًا فأردوغان يفعل ما يفعله خصومه، وما يفعله الغرب، أمام هذه التهم المفتوحة بالإرهاب.

لا يمكن فهم الاعتراض على الاعتقالات في مصر دون اعتراض مقابل أيضًا على ما يمكن أن يحدث من وقائع تعسّف في تركيا في حق أكاديميين ومعلمين وصحفيين، أما ما أعتقده، فتجريم التعسّف في الحالتين، ومواجهة السلطات وتقليم أظافرها في الحالتين إذا ما ارتكبت أي انتهاك، ولا يبرّر ظرف الانقلاب التجاوز بحال، فالأحرار ينشدون العدل، أما الذين يحاولون تطويع القيم والمبادئ والحقوق لصالح حزب هذا أو تيار ذاك فلا يرجى منهم إلا بقدر ما يعود عليهم بالنفع.

الاثنين، 18 يوليو 2016

كلمة السر: الاشتباك حتى الموت


- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الثلاثاء 19 يوليو 2016.

بيان مقتضب صادر عن مكتب رئيس المخابرات العامة التركية للجنود بعد منتصف الليل: “آمركم بالاشتباك حتى الموت”، كانت هذه كلمات “مهندس عملية إحباط الانقلاب” كما وصفته مونت كارلو الفرنسية، الكلمات التي أعادت الكفة لصالح الحكومة، المؤسسة الديمقراطية في البلاد، في معركة المصير مع الجيش. قرر الرئيس فجأة الظهور من مكان ما على شاشة هاتف لأحد المذيعين في أحد القنوات التركية، وجَّه الشعب بالنزول إلى “كل مكان”. هذه إذًا أشهر دعاية مجانية لـ «فيس تايم»، وبداية الحسم.

هذا ليس أول انقلاب تشهده تركيا، فبدا أن العسكر في تلك البلاد أدمنوا اختطاف السلطة في كل مرة كما لو أنّ هذا مدوّن في أجندتهم. انقلاب عام ٦٠ وبعده في ٧١ ثم الانقلاب الشهير في ٨٠ وأخير عام ٩٧، شهية مفتوحة وإغراء بلا حد يتملَّك أولئك الجنود أمام كرسي الحكم. كان أكثرها شبهًا بالتحركات التي حدثت في يوم الجمعة الماضي ١٥ يوليو، هو ما أعقب البيان الأول يوم ١٢ سبتمبر ١٩٨٠، حيث تم اعتقال أكثر من ٥٠٠ ألف مدني، ومحاكمة ٢٣٠ ألف، إلى جانب ٥١٧ حكمًا بالإعدام وقرابة ٣٠٠ حالة وفاة بسبب التعذيب. هاجر الآلاف واضطر كثير منهم إلى طلب اللجوء.

فشل الانقلاب في تركيا صباح يوم السبت الماضي هو بلا شك انتصار للأسس الديمقراطية والقيم المدنية ولدولة المؤسسات، وقطيعةٌ مع تاريخ طويل تغوَّل فيه الجيش على مفاصل الحكم في تركيا، إما بشكل مباشر كما هو الحال في الانقلابات الأربعة السابقة، أو كمتابع للأوضاع من بعيد، بساعة رمل، تحسب لها الدوائر السياسية والأحزاب المدنية حساب في كل تحركاتها. هذه المرة تهاوت هذه الصورة للجيش، لم يعد هو نفسه ذلك الذي يسرح ويمرح في أنقرة مرةً بدباباته ومرةً عبر إرسال المذكرات كما حدث مع انقلاب ١٩٩٧ في المذكرة المعروفة إلى رئاسة الحكومة.

لقد خرج الناس في الشوارع رافعين أعلام تركيا، لم تكن الحشود التي خرجت تمشي خلف زعامة أردوغان بالضرورة، ورغم كونه الوجه المدني في مواجهة العسكر هذه المرة، إلا أن القبلة كانت تركيا الوطن؛ الذي عانى الويلات طيلة العقود الماضية مع الحكم العسكري. لقد التقطت الكاميرات حديثًا لشيخ كبير في السن يبكي مستذكرًا المعاناة التي صاحبت الحكم العسكري البائس، ولقطات أخرى لابتهالات وصلوات غامرة في الشوارع، إلى جانب مقاومة حاسمة قرَّرتها الجموع الغاضبة في مواجهة المدرعات والجنود، لقد كانت ليلة فاخرة ولحظات بالغة السحر.

لقد تهشّمت صورة الجيش، وهذا ليس من صالح أحد صحيح؛ أن تتراجع صورة الجيش في الذهنية الشعبية كسورٍ وحامٍ للدولة والكيان من أي اعتداء، لكنَّ هذه مرحلة تحدث اضطرارًا في مشوار التحول النهائي إلى الدولة المدنية التي يحكمها الناس لا البيَّادة وأعقاب البنادق؛ يكون الرهان فيها على حكمة المؤسسة المدنية القائمة، وهي في هذه الحالة أردوغان وحكومته وحزبه والحلفاء في الداخل والدوائر الإعلامية التابعة له، مهمة تاريخية في الموازنة بين إرساء الحكم الديمقراطي واحترام الجيش وغرور الجندية وتوجيهها إلى دورها المهني، الثّكنات والعدو الخارجي المحتمل.

في المقابل، سفهاء أحلام وخصوم صغار استغلوا محاولة الانقلاب لتبادل التهاني والتبريكات، أعداءٌ كلاسيكيون لكل ما ينطلق قادمًا من تمثيل حر وإرادة شعبية، شاهدناهم إبَّان الثورات العربية؛ يحملون في قلوبهم ولاءً قديمًا للرجعية والاستبداد، وفي أيديهم مشاعل مهترأة قادمة من عصور الظلام، يخلطون الأوراق ويطلقون تهمًا رثَّة في سبيل إقناع اللا أحد، فلا مشكلة لدى هؤلاء أن يقفوا مع انقلاب عسكري في سبيل الإطاحة بالمكتسبات الديمقراطية لأن الرئيس “الحالي” لا يعجبهم. شخصيًا لا يعجبني أردوغان، وأعتقد أنه ارتكب العديد من الأخطاء والانتهاكات، وكتبت عنها في حينها، وسأقف بعقلي وقلبي مع بديل جيِّد فور توفره في انتخابات قادمة، لكني سأقف بالضد تمامًا، بشكل قاطع ونهائي، أمام أي محاولة عسكرية لمصادرة هذه المكتسبات والتغوُّل على الحكم المدني القائم، مهما كان الجالس على الكرسي اليوم. فلم تخرج قوى المعارضة العتيدة ببيان ضد الانقلاب رغبةً في أردوغان، بل خرجت لأجل تركيا الحديثة التي تشترك فيها الحكومة والمعارضة وتجمعهم جميعًا.

لقد قامت قوى المعارضة بدور تاريخي وطني مشرف للغاية، لم يجد الرئيس نفسه إلا وهو يهاتف زعماء الأحزاب المعارضة المناوئة له على طول الخط، حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، يشكرهم على بياناتهم التي خرجت في وقت مبكر جدًا من اليوم الحرج، وقد كان يرسل في حقهم سيلاً من التهم المفتوحة خلال عراكٍ حزبي يشتدّ بين الفترة والأخرى. لا يجب أن ينسى أردوغان هذا، فوسط فورته ونشوته بالانتصار الكبير على الانقلاب الذي خرج من المؤسسة العسكرية يجب أن يحافظ على الحميمية الوطنية البادية على الحالة الوطنية في البلاد، وهذا يعني أن يشطب تهمًا مثل تهمة “إهانة الرئيس” الشهيرة التي راح فيها طفلان في ١٢ و١٣ من العمر، في طريقه إلى النظام الرئاسي. وهذا يعني بالضرورة أيضًا أن يراجع حربه المفتوحة على الجميع تحت عنوان “الكيان الموازي” في حملة “تطهير” كما جاءت الكلمة على لسانه، حيث لا يجب أن تكون مثل هذه الكلمات في قاموس رئيس يناضل من أجل إرساء القيم الديمقراطية في مواجهة الاستبداد المفترض من العسكر.

إن البطولة التي سطرها الشعب التركي في نزوله إلى الشارع في ذلك اليوم الخالد لا يجب أن تُتوَّج بخروقات قانونية وانتهاكات حقوقية في حق أفراد لم يثبت تورطهم تمامًا -وبشكل مباشر- في ما حصل. يجب أن يظهر الحزب الحاكم في تركيا والممثل عن النظام الديمقراطي بمظهر مسؤولٍ تاريخيًا، مترفعًا عن الانتقام أو التبرير للانتهاكات واستغلال الظروف لتصفية الخصوم. من الواجب في وقت كهذا يستمد فيه الناس إلهامهم من حالة الالتحام الوطني القائمة والكثافة الشعورية في مرحلة مفصلية من عمر تركيا اليوم، أن تتخذ الحكومة العقل والحكمة أساسًا تنطلق منه في أي تحرك تقوم به؛ حيث لن تنسى الأجيال هذه الأحداث أبدًا، فلسنا في زمن المرويات بل زمن الصوت والصورة.

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

ولكن الإدانة لا تفيد!



- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الثلاثاء 12 يوليو 2016.

يحصل أن يموت أحدهم ولا يقام له عزاء، إما لأنه لا يعرفه أحد، أو أنه مات وحيدًا، أو ربما اختفى في ظروفٍ غامضة، لكن أن يموت مئاتُ البشر الأبرياء في لحظة واحدة والجميع يرى ويسمع، ثم لا إدانة تمر إلا بعد سؤال الفائدة والمصلحة المرجوَّة من ورائها، فهذا هو العالم قد بدأ يحتضر. هذه المرة، هذا ليس تعبيرًا أدبيًا؛ فالنظام العالمي اليوم، والذي يتعامل في غالبه مع وحدته الإنسانية بمنطق الفائدة، ليس بنظام، ولا يجوز أن يكون عالميًا. هذا النظام الوحشي الذي يتعاطى مع ضحايا الحروب بوصفهم أرقامًا يتاجر بها في سوق السياسة، ليس نظامًا واعدًا، ويجب أن يرحل.

في أسبوع واحد ضرب ثلاثة انتحاريين مطار أتاتورك في تركيا، لقد كان يومًا مرعبًا، ٤٣ قتيلاً وأكثر من مئتا جريح، على المستوى الرسمي أدان الجميع، أعداء وأصدقاء تركيا أعربوا عن رفضهم القاطع للاعتداء، بل أنّ إيران والتي تسند كفّة بشار في دمشق والحلفاء الإقليميين له في المنطقة أعربت عن استنكارها قائلة على لسان «ظريف»: “مرة أخرى أطلّ الإرهاب بوجهه القبيح في مطار البلد الشقيق والجار”، أيضًا مصر السيسي والتي تحمل خصومة واضحة مع النظام الحاكم في تركيا أعربت عن إدانتها “بأشد العبارات” لما حصل، لكن هذه الإدانات الرسمية لا تُعبّر بالضرورة عن حقيقة المواقف، فثمّة ما خلف الكلمات.

لقد رأى الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي مع هذه الحادثة كيف توارى أولئك -المحسوبين على تيارات مناوئة- بعيدًا في ما يتعلق بالمسألة الأخلاقية، فماذا يفيد إن قمتُ بالإقرار بجريمة المجرم، أو بالتضامن مع الضحايا والأبرياء، أو مساندة السلطات هناك وهي خصم سياسي بالنسبة لي؟ لا يفيد. الحسابات السياسية، واستغلال المفيد من وراء الحادثة هو المعيار هنا، وهو يتحصَّل في الضغط على هذا الخصم وتحميله المسؤولية كاملة، ولا يشترط هنا استعراض وقائع محل اعتبار وجدل كالاتصالات التي أجرتها الحكومة التركية مع متطرفين في سوريا حتى صيف ٢٠١٤، أو التراخي في ضبط الحدود، بل نجده يذهب بعيدًا لدرجة اعتباطية في توفيق المتعارضات، كما أن يقول أن تركيا نفسها هي من دبَّرت العملية لنفي تهمة رعايتها لـ «داعش» عن نفسها مثلاً، أو أنها سمحت للأكراد بتنفيذ العملية لتمرير الدعم الدولي لها، ضربٌ من الهستيريا ينتاب هؤلاء عندما يتعلَّق الأمر بالخصومة السياسية، ولا يأسفون كثيرًا لسلامة الضحايا، فزيادة أعداد المصابين والقتلى رصيد إضافي بالنسبة لهم.

لقد تابعنا مفارقات مفزعة مشابهة مع تفجير «الكرادة» الأثيم في بغداد والذي تبنَّته داعش، من جهة، والأبرياء من المدنيين في الفلوجة الذين ذهبوا ضحايا اقتحام الجيش الحكومي والميليشيات الطائفية ونفس الانتقام المصاحب من جهةٍ أخرى. وعلى الرغم من كون الضحايا مدنيين أبرياء في الحالتين، إلا أننا لاحظنا سلوكًا مشينًا لدى فريق اختار الصمت بل وذهب بعيدًا حد السخرية من قتلى الحادثة الأولى، أما على المقابل فتجده جاثٍ على ركبتيه ينوح على مقتلة المدنيين في شوارع الفلوجة والانتهاكات التي حصلت مع نازحين، والعكس أيضًا مع الفريق الثاني الذي يجرِّم «الكرادة» من جهة ويوغل في الفجور حد “اختلاق” المبررات والأكاذيب أمام الانتهاكات التي حصلت في الفلوجة. كلا الفريقين أبناء مدرسة واحدة، فالصِّفة الاعتبارية في الحالتين نفسها، والضحايا من عموم المدنيين رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخ، والحادثة الأولى حصلت في مجمَّع تجاري مزدحم بالأهالي أما الثانية فاقتحام مدينة تكتظ بالبشر، ولكن بالنسبة لهؤلاء النفعيين مهما كانت دوافعهم؛ فالمفيد والفعَّال والذي يحشد أكثر ويأتي بجماهيرية أكبر هو المهم الآن، في صورة استغلال قذر لمآسي البشر وتجاهل لخساراتهم.

لن نتوقف ونحن نسرد مثل هذه الوقائع الكارثية في التعاطي مع الأحداث، ولكنَّ المهم أن يعلم هؤلاء، من كل الفرق والطوائف والأحزاب والتيارات السياسية، أن هذا المذهب السائد اليوم والقائم على تهييج الناس والمكر والخداع ولُعب الإعلام، والذي يطوي على ازدواجية لا أخلاقية ومعيارية ظالمة في التعامل مع الضحايا، لا مكان له في المستقبل المنشود الذي نحلم به، ومهما حفل بالحشود التي تصفِّق له فإنها سرعان ما ستتفرق عنه في ساعة نهار فور تبدِّي حقيقة هذه الأساليب لها. لن يُغرينا صوته الجهور في الانسياق خلفه، ولن يغيِّر حضوره الطاغي من مبادئنا المنحازة أصالة إلى جانب الضحية، في معركة يقودها متطرفون أوغاد تدفعنا إلى الهلاك كل يوم، حيث الخاسر فيها دائمًا أبرياء أقصى عزاء سيحصلون عليه هو أن يظهروا أرقامًا على شاشات التلفزة.

عيد الفطر في السعودية: زيارات وإفطارات وزينة وعيديات


نُشر على العربي الجديد بتاريخ 7 يوليو 2016.

استقبل السعوديون عيد الفطر بالبهجة والفرح. القيم العائلية وصِلات القرابة وتبادل الزيارات وتقديم الهدايا، تبرز معاني العيد التي تنعكس بالضرورة على المأكل والملبس والعادات والتقاليد والزينة والأغاني. وتصدح أغنية "ومن العايدين" للفنان محمد عبده بتلقائية أيام العيد. كما تفرض المأكولات والحلويات وجودها بأشكالها وأنواعها، وتتفرد كل أسرة بطبقها الخاص، لتقدّمه للزوار المهنئين.

بحكم طبيعة السعودية الجغرافية، وتباعد مدنها وقراها، واحتوائها على كم كبير من القبائل العربية وحركات النزوح والانتقال والثقافات المتعدّدة، نلاحظ تنوّعًا لافتًا في شكل العيد المتعارف عليه لدى المجتمعات المحلّية.

في المنطقة الشرقية، يحدثنا أحمد العُمر عن تقارب أصلي ومقصود لمنازل الأسرة المكونة من الأعمام والجد والجدة، وهذا مبني على توافقات عائلية تؤكد على الترابط والتكاتف كقيم أساسية ضامنة للبقاء.

ويتابع العُمر "تتوجه العائلة لصلاة العيد، يليها الاجتماع السنوي المعروف للعائلة الكبيرة في مجلس أحد رجالات العائلة. وتحرص كل عائلة على جلب طبقها الخاص لسفرة الإفطار. أما الطبق الرئيسي فهو "المُحمَّر"، وهو طبق من الأرز يعلوه البيض، وهي وجبة شعبية أصلها من الزبير في العراق". ثم تجتمع العائلة في المجلس الصغير (منزل الجد المباشر)، حتى صلاة الظهر. ثم تزور كل عائلة صغيرة الأخوال، لتنتهي بعد ذلك فعاليات العيد.


وعن الأحساء، يحدثنا عبد الله بو جديع عن اكتفاء عائلته بزيارات، الأعمام والأخوال، في نفس المدينة بعيدًا عن التزامات العائلة الكبيرة. ويبدأ يوم العيد بزيارة الأعمام والأجداد، تليها وجبة الإفطار، ثم زيارة الأخوال بعد الظهيرة. ويعتبر أن الأعياد اليوم لم تعد تحمل الأجواء الحميمية والعفوية كالسابق، يقول: "يسيطر الروتين والملل على مجالس الأعياد"، واصفاً الحال بأنه "تقارب الأجساد وتباعد القلوب".




ويرى بو جديع أن المجتمع النسوي لا يزال يحتفظ بقدر كبير من الحيوية ومظاهر الأفراح والعيد على عكس الرجال، مشيراً إلى الاستعداد المسبق والاتصالات التي لا تتوقف بينهن، وتحفّزهن الكبير حتى لحظة الاجتماع في المجلس العائلي يوم العيد.

في الجنوب، يختلف الأمر قليلاً، فمع حركة النزوح إلى المدينة وانتقال كثير من العوائل للمدن، أصبح التزاور يفرض الاستعداد المسبق للسفر. ويتفق كبار الأسرة على التجمّع في مكان واحد، حيث الأجداد عادة، أما في حال غيابهم فيكون مكان الالتقاء من نصيب الأخ الأكبر.


يتحدث أنس المنتشري عن تقاليد عائلته الجنوبية، فبعد إنهاء صلاة العيد تبدأ الزيارات بتجمّع أبناء الجد المباشر وأحفاده وتناول طعام الإفطار. ويتوسط السفرة الشعبية صحفة العيش والعصيدة، إلى جانب العسل والسمن واللبن. ثم تتجهز العائلة لزيارة كبير فخذ العائلة، ويسمى "عريفة العائلة"، وتمتد الزيارة حتى صلاة الظهر.

وعن اليوم الثاني للعيد، يقول المنتشري: "تزور العائلة الأشخاص الأكبر سنًا والمرضى، إلى أن تتجمّع حول سفرة العشاء نهاية اليوم الثاني. أما اليوم الثالث فهو لزيارة الأخوال إلى جانب المناسبات والتجمعات العامة".


وبالانتقال إلى الحجاز قرى وحاضرة، نجد مجتمعًا غنيًا بالثقافات متعدّد المشارب والأطياف بحكم الطبيعة التاريخية. ومن أولويات العيد في الحجاز "العيديات"، وهي مبالغ مالية تصرف للأبناء وأبناء الأقارب.


من المدينة المنورة، يتحدث صدِّيق بخاري عن ارتباط أهل المدينة يوم العيد بالحرم النبوي، إذ يبدو أشبه بالبروتوكول الثابت لديهم. ويتابع "بعد الصلاة تتجه العائلة مجتمعة إلى بيت الجدّ، وتفتح الأبواب على مصراعيها لاستقبال أي زائر طيلة أيام العيد. ويحتفظ أهل المدينة بعادة زيارة البيوت مشيًا على الأقدام. وبعد الإفطار تبدأ زيارة الجيران والأقارب".




وفي الطائف، تحافظ العائلات على التقاليد القبلية، تبدأ بالاجتماع صباح العيد وتنتهي بزيارة الوجهاء وأعيان القبيلة على مدى ثلاثة أيام. ويتحدث صالح السفياني عن الاجتماع التقليدي الذي يعقد في "الحارة"، لإحياء ليلة العيد بلعبة "المزمار"، وهي رقصة حجازية شهيرة بالعصي. ويشير إلى استعاضة كثير من أهالي الطائف وضواحيها بتجمّع ثابت في الاستراحات مع توسّع أفراد العائلة إلى جيلين وثلاثة أجيال. وتحفل فعاليات العيد بالزيارات والنشاطات الرياضية والرقصات الشعبية مثل "حيوما" و"مقاميع" أو "التعشير". ويتقاسم رجال العائلة مسبقاً ميزانية العيد.


وأبدى السفياني تحفّظه على اللقاءات العائلية التي يسيطر فيها كبار السن على كل التفاصيل دون إفساح المجال للشباب لتقرير احتياجاتهم. وقال: "أخشى أن ينفّر هذا شباب القبيلة مستقبلاً، وهذا ما لا نريده".




ويغلب على مدينة جدة الساحلية الطابع المدني أكثر، وتحفل الأعياد بزيارة البيوت والذهاب إلى الاستراحات لغرض الترفيه المحض.


ويتحدث محمد خيَّاط من جدة عن حرص الأهالي على تزيين البيوت واقتناء الهدايا والبالونات استعدادًا ليوم العيد، وبعد الصلاة تحضر سفرة الإفطار الحجازية المتمثلة في طبق الحلوى الرئيسي "الدبيازة"، وهو عبارة عن مزيج من الخشاف (أو قمر الدين) والتين والمشمش الجافين واللوز والزبيب وغيرها، وترتبط هذه الأكلة بعيد الفطر حصرًا.


وبعد الجلسة العائلية الصباحية يقول خيَّاط: "نشارك الإفطار مع الأعمام بحضور الجدة حتى الظهيرة، ثم نزور الأخوال وجدتي لأمي، وتناول معاً وجبة الغداء ونلعب ألعاباً جماعية حتى قبيل المغرب، ثم تتجه العائلة كلها إلى البيت الكبير".


وتحتفظ العائلات السعودية بنوع من العفوية المتوارثة أثناء الزيارات، تتمثل في تجاور أبناء العم والخال من الجنسين، وتبادل التهاني دون تحفّظ بحضور الأجداد، الأمر الذي كان معمول به قديمًا في قرى الجنوب وغيرها قبل تأثره بخطاب محافظ ظهر مع بداية السبعينيات، وما صاحبه من آثار واسعة أتت على هوية المجتمع.

الثلاثاء، 28 يونيو 2016

"خيانة وطن".. مغالطات تاريخية وسقطات درامية


نقدي لمسلسل "خيانة وطن" في العدد 666 من العربي الجديد.
- النسخة الورقية هنا، صفحة 22 | النسخة الإلكترونية هنا



أن تكون في مشروع غيرك!





- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الثلاثاء 29 يونيو 2016.

كثير من المشروعات الفكرية والتيَّارية تحاول ضمّك إليها، أن تكون محسوبًا عليها، رقمًا فيها، أن تبذل لهم وقضاياهم وأن تقدم لهم أقصى ما تستطيع وأفضل ما عندك. هذا ليس خطأً، بل الخطيئة تكمن في الإيمان بالمشروع الذي يحترف التضليل والتضليل المتعمَّد، المشروع الذي يرتكز على إلهاب العاطفة والعمل من تحت الطاولة ووصف الأمور بغير وصوفاتها ومسمّياتها الحقيقية.

لا يحب كثيرون الانقياد، لا يحبون تلك المصطلحات التي تشعرهم بأنهم الأدنى، كما لا يحبون أن يشعروا بأنهم في أعمالٍ ينفذونها لغيرهم. إن الإيمان بالفكرة التي تعمل لها وتقدم فيها وقتك وجهدك وتركيزك، وربما على حساب أقرب الأقربين لك، خليلتك التي تحب وأبنائك، والديك والإخوة ومحيطك الاجتماعي من أصدقاء، إن ذلك الإيمان يلزمه مشوارٌ من الشك السابق، والبحث المستمر.

لقد أصبحت المجالس العامة ومواقع التواصل الاجتماعي هي ورش العمل الشعبية لتلك المشروعات، وصار الجدل المستمر فيها أشبه بالالتزام اليومي المفتوح. إن مثل هذه الورش المتعلقة بالأفكار والانحيازات ترتبط بحياة الناس، إنها تصنع شيئًا من ذواتهم، شكلٌ من أشكال الحق التالي على الوجود الإنساني، أمر متعلّق باحترام الذات، أن تنتصر للفكرة التي تريد وأن تعمل لأجلها.

ولكن في ظلّ هذا كله، يستغل آخرون هذه النزعة بشكلٍ سافر وأناني في معارك لا تخدم إلا حساباتهم الخاصة، إنهم يحشدون الناس حول الأكاذيب، ولغايات غير نبيلة، وحسابات تتعلّق بالحظوة والمنصب والمال وصعود النجم والتزلُّف لصانع القرار، إنها حالةٌ تذكرني بالحوار العميق في أحد حلقات المسلسل الذي يتابعه الجميع هذه الأيام «صراع العروش»، والذي دار بين أميري حرب، حين قال أحدهما للآخر: “هل سيقاتل رجالك لأجلك عندما يعرفون أنك لن تقاتل لأجلهم؟!”، ولكن الإجابة في حالتنا: نعم.

إنها ليست جبهة الرجل الواحد، بل مشروعات يتقدمها صفٌ طويل من النّخب والمحسوبين على الثقافة والقلم عند كلِّ فريق، وأحيانًا بعض المتنفّذين والوشاة، وأنت بين هذه المشروعات التي تتمدّد فوقك وأسفل منك وعن يمينك وشمالك، ووسط هذه الأعين التي ترمقك، تحاول أن تكون مستقلاً قدر الإمكان مدافعًا عن حقك في فهم الأمور بتجرّد وموضوعية أكثر، لكنهم -كما نرى- يغلبونك بالصوت العالي في كلّ مرةٍ يتحدثون.

لا يحقّ لأحد أن يدفعك ناحية آمال لم تؤمن بها، وأحلام لم ترها. لا يحقّ لأحد أن يغريك بالوقوف على عتبة هشّة في فضاء من الوهم. لا تكن ترسًا في مَكَنة، مَكَنة تلك الحكومة، أو صاحب المال، أو ذلك المثقّف. آمن بما تريد الإيمان به مرة، وآمن بنفسك مرتين، هذا ما أقوله لنفسي، وبعدها فلتكن في أي مشروع تريد، طالما أنك منحت نفسك فرصة القناعة به وتصوّر الأثمان التي ستدفعها من خلاله.


إنه جدال مفيد، ذلك الذي تقيمه بينك وبين نفسك في كلِّ مرة متسائلاً معها حيال حقيقة المساهمة التي تقوم بها، ولو كانت مساهمة صغيرة، في المربع الذي تقف فيه والانحياز الذي تختاره، ولو كان حضورًا قليلاً. حيث الاعتراف شجاعة والإنصاف عزيز والاستقلال اتساقٌ مع النّفس وتمرّدٌ على القيود، والإقرار بضرورة التقدم ناحية قضايا أكثر إلحاحًا وعدالة وخيريَّة غاية المعرفة والرّشد.