الاثنين، 18 يوليو 2016

كلمة السر: الاشتباك حتى الموت


- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الثلاثاء 19 يوليو 2016.

بيان مقتضب صادر عن مكتب رئيس المخابرات العامة التركية للجنود بعد منتصف الليل: “آمركم بالاشتباك حتى الموت”، كانت هذه كلمات “مهندس عملية إحباط الانقلاب” كما وصفته مونت كارلو الفرنسية، الكلمات التي أعادت الكفة لصالح الحكومة، المؤسسة الديمقراطية في البلاد، في معركة المصير مع الجيش. قرر الرئيس فجأة الظهور من مكان ما على شاشة هاتف لأحد المذيعين في أحد القنوات التركية، وجَّه الشعب بالنزول إلى “كل مكان”. هذه إذًا أشهر دعاية مجانية لـ «فيس تايم»، وبداية الحسم.

هذا ليس أول انقلاب تشهده تركيا، فبدا أن العسكر في تلك البلاد أدمنوا اختطاف السلطة في كل مرة كما لو أنّ هذا مدوّن في أجندتهم. انقلاب عام ٦٠ وبعده في ٧١ ثم الانقلاب الشهير في ٨٠ وأخير عام ٩٧، شهية مفتوحة وإغراء بلا حد يتملَّك أولئك الجنود أمام كرسي الحكم. كان أكثرها شبهًا بالتحركات التي حدثت في يوم الجمعة الماضي ١٥ يوليو، هو ما أعقب البيان الأول يوم ١٢ سبتمبر ١٩٨٠، حيث تم اعتقال أكثر من ٥٠٠ ألف مدني، ومحاكمة ٢٣٠ ألف، إلى جانب ٥١٧ حكمًا بالإعدام وقرابة ٣٠٠ حالة وفاة بسبب التعذيب. هاجر الآلاف واضطر كثير منهم إلى طلب اللجوء.

فشل الانقلاب في تركيا صباح يوم السبت الماضي هو بلا شك انتصار للأسس الديمقراطية والقيم المدنية ولدولة المؤسسات، وقطيعةٌ مع تاريخ طويل تغوَّل فيه الجيش على مفاصل الحكم في تركيا، إما بشكل مباشر كما هو الحال في الانقلابات الأربعة السابقة، أو كمتابع للأوضاع من بعيد، بساعة رمل، تحسب لها الدوائر السياسية والأحزاب المدنية حساب في كل تحركاتها. هذه المرة تهاوت هذه الصورة للجيش، لم يعد هو نفسه ذلك الذي يسرح ويمرح في أنقرة مرةً بدباباته ومرةً عبر إرسال المذكرات كما حدث مع انقلاب ١٩٩٧ في المذكرة المعروفة إلى رئاسة الحكومة.

لقد خرج الناس في الشوارع رافعين أعلام تركيا، لم تكن الحشود التي خرجت تمشي خلف زعامة أردوغان بالضرورة، ورغم كونه الوجه المدني في مواجهة العسكر هذه المرة، إلا أن القبلة كانت تركيا الوطن؛ الذي عانى الويلات طيلة العقود الماضية مع الحكم العسكري. لقد التقطت الكاميرات حديثًا لشيخ كبير في السن يبكي مستذكرًا المعاناة التي صاحبت الحكم العسكري البائس، ولقطات أخرى لابتهالات وصلوات غامرة في الشوارع، إلى جانب مقاومة حاسمة قرَّرتها الجموع الغاضبة في مواجهة المدرعات والجنود، لقد كانت ليلة فاخرة ولحظات بالغة السحر.

لقد تهشّمت صورة الجيش، وهذا ليس من صالح أحد صحيح؛ أن تتراجع صورة الجيش في الذهنية الشعبية كسورٍ وحامٍ للدولة والكيان من أي اعتداء، لكنَّ هذه مرحلة تحدث اضطرارًا في مشوار التحول النهائي إلى الدولة المدنية التي يحكمها الناس لا البيَّادة وأعقاب البنادق؛ يكون الرهان فيها على حكمة المؤسسة المدنية القائمة، وهي في هذه الحالة أردوغان وحكومته وحزبه والحلفاء في الداخل والدوائر الإعلامية التابعة له، مهمة تاريخية في الموازنة بين إرساء الحكم الديمقراطي واحترام الجيش وغرور الجندية وتوجيهها إلى دورها المهني، الثّكنات والعدو الخارجي المحتمل.

في المقابل، سفهاء أحلام وخصوم صغار استغلوا محاولة الانقلاب لتبادل التهاني والتبريكات، أعداءٌ كلاسيكيون لكل ما ينطلق قادمًا من تمثيل حر وإرادة شعبية، شاهدناهم إبَّان الثورات العربية؛ يحملون في قلوبهم ولاءً قديمًا للرجعية والاستبداد، وفي أيديهم مشاعل مهترأة قادمة من عصور الظلام، يخلطون الأوراق ويطلقون تهمًا رثَّة في سبيل إقناع اللا أحد، فلا مشكلة لدى هؤلاء أن يقفوا مع انقلاب عسكري في سبيل الإطاحة بالمكتسبات الديمقراطية لأن الرئيس “الحالي” لا يعجبهم. شخصيًا لا يعجبني أردوغان، وأعتقد أنه ارتكب العديد من الأخطاء والانتهاكات، وكتبت عنها في حينها، وسأقف بعقلي وقلبي مع بديل جيِّد فور توفره في انتخابات قادمة، لكني سأقف بالضد تمامًا، بشكل قاطع ونهائي، أمام أي محاولة عسكرية لمصادرة هذه المكتسبات والتغوُّل على الحكم المدني القائم، مهما كان الجالس على الكرسي اليوم. فلم تخرج قوى المعارضة العتيدة ببيان ضد الانقلاب رغبةً في أردوغان، بل خرجت لأجل تركيا الحديثة التي تشترك فيها الحكومة والمعارضة وتجمعهم جميعًا.

لقد قامت قوى المعارضة بدور تاريخي وطني مشرف للغاية، لم يجد الرئيس نفسه إلا وهو يهاتف زعماء الأحزاب المعارضة المناوئة له على طول الخط، حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، يشكرهم على بياناتهم التي خرجت في وقت مبكر جدًا من اليوم الحرج، وقد كان يرسل في حقهم سيلاً من التهم المفتوحة خلال عراكٍ حزبي يشتدّ بين الفترة والأخرى. لا يجب أن ينسى أردوغان هذا، فوسط فورته ونشوته بالانتصار الكبير على الانقلاب الذي خرج من المؤسسة العسكرية يجب أن يحافظ على الحميمية الوطنية البادية على الحالة الوطنية في البلاد، وهذا يعني أن يشطب تهمًا مثل تهمة “إهانة الرئيس” الشهيرة التي راح فيها طفلان في ١٢ و١٣ من العمر، في طريقه إلى النظام الرئاسي. وهذا يعني بالضرورة أيضًا أن يراجع حربه المفتوحة على الجميع تحت عنوان “الكيان الموازي” في حملة “تطهير” كما جاءت الكلمة على لسانه، حيث لا يجب أن تكون مثل هذه الكلمات في قاموس رئيس يناضل من أجل إرساء القيم الديمقراطية في مواجهة الاستبداد المفترض من العسكر.

إن البطولة التي سطرها الشعب التركي في نزوله إلى الشارع في ذلك اليوم الخالد لا يجب أن تُتوَّج بخروقات قانونية وانتهاكات حقوقية في حق أفراد لم يثبت تورطهم تمامًا -وبشكل مباشر- في ما حصل. يجب أن يظهر الحزب الحاكم في تركيا والممثل عن النظام الديمقراطي بمظهر مسؤولٍ تاريخيًا، مترفعًا عن الانتقام أو التبرير للانتهاكات واستغلال الظروف لتصفية الخصوم. من الواجب في وقت كهذا يستمد فيه الناس إلهامهم من حالة الالتحام الوطني القائمة والكثافة الشعورية في مرحلة مفصلية من عمر تركيا اليوم، أن تتخذ الحكومة العقل والحكمة أساسًا تنطلق منه في أي تحرك تقوم به؛ حيث لن تنسى الأجيال هذه الأحداث أبدًا، فلسنا في زمن المرويات بل زمن الصوت والصورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق