- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الثلاثاء 21 يونيو 2016.
نجح ناصر القصبي طيلة عقدين من الزمان في خلق حالة كوميدية محلية طبعت بصمتها في ذاكرة جيلين تقريبًا تعوّدوا على مشاهدة «طاش ما طاش» على مائدة الإفطار في رمضان كلّ عام طيلة 18 موسمًا، بالاشتراك مع رفيق دربه عبد الله السدحان، واللذان بدا للمشاهد أنهما سيستمران “إلى الأبد” كثنائي فرض سلطته على مناقشة ظواهر المجتمع في قالب درامي كوميدي. نجحا في الاحتكار لوقت طويل، ولكن هذا التوأم السيامي وبعد عقدين قرّر الانفصال.
منذ تلك اللحظة، يبدو أن الحظ حالف القصبي أكثر من السدحان، فحافظ الأول على شعبيته وتوجّه بها إلى «أبو الملايين»، العمل الأضخم بعد إنهاء «طاش»، وفضّل الآخر العودة إلى القناة الأولى والأجواء الكلاسيكية الدافئة هناك، حيث لا أحد.
بعد «أبو الملايين»، بمشاركة عبد الحسين عبد الرضا، والذي يبدو أنه لاقى نجاحًا نسبيًا، أطلق ناصر القصبي في السنة التالية العمل الكوميدي الدرامي «سيلفي»، المسلسل الذي يناقش قضايا المجتمع في حلقات رمضانية يومية متنوعة، في عودة أقرب إلى حنين القصبي إلى «طاش»، ولكن كان من الحاسم منذ الحلقة الأولى تعذّر أن يكون أيّ عمل آخر قادر على معادلة «طاش» والإرث الطويل، على ما عليه من نقودات.
لست هنا لاستعراض كامل حلقات «سيلفي» ونقاش ما تم عرضه فيها، كما لست حريصًا على إشباع رغبة القارئ الذي ينتظر مديحًا صرفًا أو ذمًا صرفًا؛ إنما أريد مناقشة الظاهرة بشكلٍ عام، فالمسلسل تحوّل إلى وجبة ثقافية يومية للمشاهد المحلّي والخليجي بالعموم، يتناولها على الإفطار ويهضمها -أو العكس- تاليًا في المجالس العامة ومواقع التواصل الاجتماعي.
يحاول كثيرون تصوير «سيلفي» وكأنه المتحدث الرسمي باسم الحالة الثقافية المحلية في السعودية، كما يحاولون تصويره وكأنه الوكيل الحصري لنقدها وتشكيل ردة الفعل المناسبة وثم معالجة ظواهر المجتمع. وهذه مغالطة من جهتين، الجهة الأولى أنها ليست صحيحة، فهناك تيارات وتشكّلات ثقافية أكثر مما يحاول «سيلفي» تصويره، وأعمق من الطرح المحدود الذي يعرضه المسلسل أو الشخصيات التي يعرضها في حلقاته. والجهة الأخرى أن هذا الخطاب يحاول اختصار الحالة الثقافية في مسطرة «سيلفي»، وبالتالي فهو يطالب الجميع بالعودة إليها أو التماهي معها، وهذا ليس من حقِّ أحد.
وحتى نستطيع استيعاب الطرح الذي يحاول القصبي وفريقه تقديمه، لابد من فهم أن «سيلفي» يأخذ أسلوب معالجته للأمور من خلفية ليبرالية محلية كلاسيكية، هذا إطاره، وهذا أسلوبه في تناول موضوعات المجتمع، وبالتالي يكون من غير المفهوم مطالبة البعض للمسلسل بأن يكون حقوقيًا صرفًا مثلاً ليثبت مصداقيته، أو أن يلعب دور المحاكمة لأدوار السلطة، هو غير مهتم بهذا أصلاً؛ فهو ينطلق من نقد المجتمع والعودة إلى نقد المجتمع دون التطرّق للكبار الذين يسيطرون عليه ويملكون أدوات تشكيله والتأثير عليه، وهذا ما أثبتته حلقة «معرض الكتاب» عندما صوَّرت القصبي كممثل عن وزارة الإعلام في المعرض وسط جدال بين متشدّد “لا يملك صفة رسمية”، ومثقف، في محاولة لإزاحة وزارة الإعلام وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -الحكومي- والسلطة من ورائها من أي دور لعبته وتلعبه في التأثير على المشهد طيلة السنوات الماضية.
أعتقد أننا بحاجة إلى نقد ذاتي لكثير من الظواهر في مجتمعنا، كما من غير المفيد أن يتم نسبة كل هذه الظواهر لأدوار تلعبها السلطة بطبيعة الحال، فلدينا مشكلات سابقة عليها ومتجذِّرة أكثر مما نتصور. «طاش» قدم شيئًا من هذا في صورة كوميدية مقبولة لدى الناس، أما «سيلفي» فهو يحاول إعادة إحياء هذا القالب في طور جديد، ولكنه -حتى الآن- لا يبدو أنه جدير بالثقة.
السيناريو البسيط والمعالجة السطحية للقضايا والإخراج الفني الركيك جدًا هي سمة بارزة في المسلسل، فالسيناريوهات المطروحة متوقعة، وهي أشبه بما كنا نقدمه في المسارح المدرسية في طفولتنا، أما حلقة «ليلة»، والتي ظهر فيها القصبي بصورة المتعاطي، فلا يبدو أن السيناريو تجاوز روشيته صغيرة تحتوي على العبارة التالية: حاول أن تستغرق وقت الحلقة، وأن تبدو مضحكًا. نجحوا في الأولى، وفشلوا جميعًا في الثانية، تمامًا.
الأفكار بدت كما لو أنها أقرب إلى الوعظ منها إلى أي شيء آخر، خذ مثلاً حلقة «نسف»، حيث بقي القصبي -وكان هذا دوره فقط- طيلة الحلقة في غرفة واحدة كزعيم لجماعة إرهابية، ويرسل أحد الانتحاريين لتنفيذ عملية تفجير لمسجد للطائفة الشيعية، ليتراجع الأخير ويلتقي بشخصية شيعية بسيطة أخرى من أهل المدينة، يجمعهما حوارٌ سمج آخر، ثم يلتقيان أخيرًا برومانسية على الشاطئ ليقوما بغناء وطني الحبيب لطلال مداح، على العود!
أيضًا حلقة «لجوء»، قصة بطولية لدكتور سعودي يحاول إنقاذ طفلة سورية، حيث يقوم بتهريب نفسه معها عبر قارب إلى أوروبا لتسليمها إلى قريبتها.. يدخل «تهريبًا» إلى أوروبا.. ثم يعود بالطائرة!
هل يليق سيناريو ساذج كهذا بالُمشاهد؟ ثم هل يليق هذا بشخصية فنان بحجم ناصر القصبي؟ وهل يعتقد مؤلف العمل والمخرج أن قصة كهذه تستحق أن تدوَّن في سيرتهم الذاتية؟ ثم هم يخاطبون من؟ أين الحبكة الدرامية؟ وأين ذروة الحدث؟ لا شيء من كل هذا.
ظهر عبد الحسين عبد الرضا في لقاء مع داود الشريان هذا الأسبوع وقال أن القصبي شخصية خجولة، وتتماهى مع تعليمات المخرج دون اعتراض، ويستحق أن يتم الاعتناء به بشكل أفضل. تصريح عبد الرضا قابله القصبي بترحيب، فهل سنشهد تغييرًا في الأعمال القادمة؟ أم أن إرث العقدين من الزمان سيصبح “ذكرى تدق في عالم النسيان”؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق