الخميس، 19 مايو 2016

صادق خان عمدة لندن!




في سجالات الانتخابات أنت تقول أمورًا وتتساءل، وأعتقد أنه من الصواب أن يتعرض المرشحون لأحد أهم المناصب في بريطانيا للتّمحيص بشأن ارتباطاتهم الماضية”، هكذا برّر وزير الدفاع البريطاني عن حزب المحافظين «مايكل فالون» تصريحاته السابقة في حق «صادق خان»، إثر ربطه الأخير بالجماعات الإسلامية المتطرفة بعد فوزه الكاسح كعمدة لمدينة لندن.

إذًا، فاز صادق خان، البريطاني المسلم القادم من أصول باكستانية، بمنصب عمدة العاصمة البريطانية لندن عن حزب العمّال الذي ارتبط به منذ منتصف التسعينات، وعبر من خلاله إلى عدة مناصب من ضمنها نائبًا في مجلس العموم، بين خمسة نوّاب آخرين ينتمون إلى أقليات انتخبوا ذلك العام، ولاحقًا حقيبتين وزاريتين في الحكومة كأول وزير مسلم في بريطانيا.

لقد ارتبطت طفولة هذا الرجل بالمعاناة، فهو الإبن الخامس من بين ثمانية أشقاء لأب يعمل سائق حافلة وأم خيَّاطة قدما من باكستان إلى بريطانيا عام ١٩٧٠، حيث أقامت هذه العائلة في مجمعٍ سكني في ضواحي لندن وفَّرته لهم البلدية، ولم تكن تحوي الشقة إلا على ثلاث غرف لعائلة تتكون من عشرة أفراد!

يبدو الأمر بالنسبة للأقليات شاقًا، وأعني في هذه الحالة تحديدًا عصر ما قبل وسائل التواصل الحديث، حيث كان الأمر أكثر صعوبة، بداية من ثنائية العزلة والاندماج وسط مجتمع وظروف مختلفةٍ كلية، مرورًا بإشكالات التباين الثقافي والخصوصيات الدينية وصولاً إلى استيعاب الفضاء العام والتيارات السياسية والحركات المدنية في تلكم المجتمعات. كل هذه مسائل تواجه الأقليات في بريطانيا وأوروبا بالعموم، خصوصًا بالنسبة لعوائل محدودة الدخل هاجرت مضطرة من بلدانها.

من بين كل هذا جاء صادق خان، القادم من أسرة مهاجرة بسيطة تتقاسم رغيف الخبز وتكدّ سائر اليوم لتأمين حياتها ومستقبلها، والذي سجّل عدة مواقف تحسب له ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وضد حرب العراق عام ٢٠٠٣، ومناورات أخرى صعبة كسبها كنائب، وحتى اليوم وهو يفوز بصوت اللندنيين بفارق كبير عن منافسه المحافظ.

لم يتوقف خبر فوز «خان» بالمنصب عند لندن، بل تجاوزها إلى عالمنا العربي والخليج، حيث شعر كثير من المتابعين العرب -على تويتر مثلاً- بالانتشاء لوهلة، ليس لأنهم يعرفونه ويتابعون تاريخه السياسي ومواقفه خلال مناصبه المتعددة، بل لمجرَّد -وفقط- كون أحدهم قال لهم أنه مسلم!

هنا تأتي الرابطة الدينية على رأس الأولويات، مقدمةً على ماهيَّة ما يفعله الرجل أو الدور الذي يؤديه. لقد قالوا أنه مسلم، لقد قالوا أنه أقسم على القرآن.. قالوا ذلك، وقد كان هذا كفيل بتبجيله والرضا عنه، هكذا يفكِّر كثيرون، وهكذا يتعاطى سوادٌ أعظم في عالمنا مع الساسة والسياسة؛ بطريقة طوباوية بسيطة ليست موجودة إلا عبر الأخيلة، وأقول «بسيطة» هنا، لأن هؤلاء الذين يفكرون بهذه الطريقة طيّبون جدًا، ومساكين جدًا؛ فلم يكن ليحصل «خان» على أصوات أهالي لندن يوم الاقتراع لأنه الناسك العابد، بل اختاروه لكونه الكفؤ، الذي عمل لعقد وأكثر من الزمان بجد حتى كسب الثقة، مناصرًا لقضايا الحريات والأقليات؛ ففي تلك البلاد لا يتقلَّد أحد منصبًا لكونه من سلالة التنانين أو الأفاعي، ولا حسب طول لحيته أو قصرها، أو لأنه انتحل مذهبًا روحيًا ما من عدمه، كل تلك أمور تخصّك، أما ما يخص سكان لندن وما يعني الصالح العام فهي معايير الكفاءة وجودة العمل وقبول الناس. وباعتبار هذا نلاحظ أن ضمانة وفرة الخبرات والطاقات أكبر، وهذه إحدى نتائج الجدل والاستيعاب المبكّر داخل العقلية الأوروبية حول مسائل الحريات والتفاوت البشري الخلَّاق.

إنه من غير المفهوم، الفرح بفوز مرشحٍ في أقصى الغرب من أناس في أقصى الشرق فقط لأنه من نفس الديانة أو العرق، لا يربطهم به إلا معرفتهم «اللَّحظية» عبر مواقع التواصل أنه كذلك، حتى أن الطريف أن بعضهم دخل ابتداءً في جدل حول اسمه، هل هو «صادق أم صدِّيق»؟!

طريقة التفكير المضلِّلة هذه، والتي اعتشنا عليها عقودًا من الزمن، وضلَّ بنا الطريق بسببها عقودًا أخرى، لابد أن نتخلَّص منها، فلا يكفي لأمنحك الثقة كونك من نفس الديانة، فالإسلام هنا ليس بيانًا سياسيًا، بل هو الإيمان، وهو هنا ليس فصيلاً حركيًا أو حزبًا برامجيًا يعمل وفق أنظمة ولوائح وخطط ومراحل زمنية يكسب ويخسر؛ بل نحن نتحدّث عن فضاء مفتوح من الصلة الروحية الخاصة بين الإنسان ومعبوده، ولا يعكس هذا «بالضرورة» أي رابطةٍ وضمانة لأناس في بيئات وبلاد مختلفة، لهم قصصهم ومعاناتهم ومشكلاتهم التي تتقاطع مع حياتهم اليومية ضمن جغرافيا ولدوا وتربَّوا وعاشوا عليها ومن خلال معطيات مرتبطة بها، وفي سياق تاريخي منفصل وثقافات متباينة.

وعلى ضوء ما سبق نستطيع فهم حالة الصّدمة التي ظهرت بعد معرفة أن «خان» في مارس ٢٠٠٧ كان قد صوّت فعلاً لصالح مشروع يدعم المساواة في الحقوق مع المثليين، ثم في فبراير ٢٠١٣ نجده أيضًا يدعم مشروعًا يفيد السماح بزواج المثليين. هنا انقلب أولئك عليه مباشرة، وشكّكوا في ديانته، وبعضهم ذهب إلى نفيه إلى مذهب آخر في محاولة ساذجة للتبرّي منه! وهذا يحمل دلالات محبطة عن كيف يمكن لمجرّد امتداد مفتوح لدين أو لمذهب أو دم أن يرفع ويخفض، وخلال ساعات!

في أرض العرب اليوم لا يكاد يخلو حديث من الطائفية، حتى ليبدو أنها بصمة عربية تأتي على كلِّ الموضوعات، فقد جرى أيضًا نقاش حول خلفية «خان» المذهبية، بل وإلصاقه بالمذهب الشيعي حيث لم يتحدث أي مصدر عن هذا، وهي ليست تهمة على كل حال، ولكنها تعطيك انطباعًا سريعًا حول العقلية التي يتعامل بها العربي مع مشكلاته، فليست الأولوية عند هذه العقلية الفضول الضروري بطرح أسئلة من قبيل: كيف وصل شخص مسلم في دولة ذات تاريخ وغالبية مسيحية كبريطانيا إلى هذا المنصب؟ ثم كيف يعمل حزب العمال؟ وماذا كان يفعل «خان» منذ التسعينات في الحزب؟ وإلى أي جناح ينتمي؟، تجاهلت هذه العقلية كل هذه الأسئلة الملحّة، واتجهت مباشرةً إلى الديانة والمذهب. إنها عقلية مأزومة تعيش حالة من الخوف والأسر، وأُريد لها أن تكون كذلك.

بريطانيا ليست الحلم فيما يخص مسائل الاندماج والتعامل مع اللاجئين، لكن فوز «صادق خان»، النائب والوزير من ذوي الأصول الباكستانية هذا الأسبوع كعمدة لمدينة لندن، يطرح سؤالاً واحدًا: ماذا سيكون مصيره لو اختار والده يومها أن يحجز تذكرة إلى وجهة أخرى.. ويهاجر إلى العالم العربي؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق