الخميس، 19 مايو 2016

سياسة الإلهاء: الدستور الداخلي للحكومات




يبدو الأمر أصعب على الفهم، عندما نلاحظ أن قضايا «الدرجة الثانية» أو حتى القضايا الهامشية، تلقى اهتمامًا عريضًا وجدلاً واسعًا في المجالس الشعبية ونوادي التعبير وفضاءات الرأي، الأمر غير منطقي بالمرة؛ فمالذي يصرف شعبًا عن مناقشة أوضاعه الاقتصادية وسوء البنية التحتية والخدمات الصحية المرتبطة بواقع حياته إلى الفضائح والتسريبات الأخلاقية والتعلّق بالدعايات ومشاهد الإغراء؟! هل قضاياه المصيرية رتيبة إلى هذا الحد؟ أم أنه يهرب منها -كالآخرين- إلى تلك الأكثر زخمًا وجاذبية؟ أم طُوِّع ليكون أقرب إلى الثانية منه إلى الأولى؟

هناك كلمة مفتاحية تأتي دائمًا في سياق الإجابة عن هذا: اليأس! إنه الإحباط من «الكُل»، الكُل السياسي والاقتصادي، هيكلة الدولة والبيروقراطية وانسحاب هذا على الخدمات وطبيعة التأثير وفعالية المؤسسات الشعبية كالبرلمان ومداه. هذه إجابة تمهيدية مهمة، فالناس في حال اليأس والخوف ينصرفون إلى الملهيات بحثًا عن الهرب من حقيقة ما يجري من واقع يبدو أكثر تعاسة كلما اقتربوا منه.

هذا الانصراف عن مناقشة الواقع الصعب يخلق حالة من الفوضى والارتباك؛ الأفواج من الناس يهربون إلى أي شيء بإمكانه أن يقوم بتسليتهم، إنها حالة انفلات من شأنها أن تذيب كل تلك الروابط الثقافية والأخلاقية وما يلحقها من مبادئ وقيم، وهذا يفسر في أحد أوجهه مسألة شيوع تجاوزات لاحقة من هذا النوع في المجتمع. وهنا نفهم كيف تحوّلت الجاذبية في الفضائحيات والتسريبات لفنانين وشخصيات عامة، أو الاصطياد والتتّبع والمراقبة لحيوات الناس، إلى ظاهرةٍ مسليةٍ بالنسبة إلى أولئك، جموع المحبطين!

من جانب آخر، يبدو أن الدولة الحديثة المتورطة بشكل أساسي في كل هذا، بما تملكه من مؤسسات وعلاقات وأدوات توجيه ودعاية، قد تنبّهت إليه مبكرًا، وشرعت في توفير حيلاً وأساليب تمنحها مساحة مضاعفة للتحرك والتأثير وتخفف عنها حدة الاحتقان الشعبي الناتج عن إخفاقاتها المستمرة، هذا بالطبع إلى جانب احتكارها للعنف وإساءة استخدام السلطات.

دائمًا ما تلجأ السلطات، بكافة أشكالها، إلى سياسات إلهاء بغرض التأثير وفرض السيطرة أو جس النّبض حيال ما قرّرته أو ستقرّر القيام به. وفي هذه الحالة، فهي تقوم بخلق أجواء صاخبة حول قضايا يمكن مناقشتها وحلها بالاحتواء الجاد والمسؤول عبر مجالس عليا ومؤتمرات وطنية تمنحها فرصة المداولة والإشراك الشعبي والخروج تاليًا بتوصيات فعَّالة، إلا أنها في كل مرة تحاول استغلال هذه القضايا لصالح إشغال الرأي العام عوضًا عن إنجازها؛ الأمر الذي يمنحها مزيدًا من الوقت لتدوير مصالحها وفرض سياساتها.

بعد انسحاب القوات السوڤيتية من أفغانستان وخسارتها أمام طالبان، حيث لم يغب الدعم الأمريكي غير المباشر، ظلّت «حكومة طالبان» وتنظيم القاعدة الذي أسسه أسامة بن لادن هاجسًا بالنسبة للإدارة الأمريكية بعد إعلانه العداء الصريح للولايات المتحدة وتنفيذه عدة هجمات متفرقة.

ومع مجيء جورج بوش إلى البيت الأبيض وأحداث الحادي عشر من سبتمبر في نفس العام، عمد إلى استغلال هذه المخاوف وإشاعتها عبر أساليب مختلفة وتحشيدها لصالحه، سواء عن طريق الضغط على الكونجرس أو نشر الذعر داخل المجتمع الأمريكي من خلال تصريحات وعناوين لاهبة، وطبعًا تفويض الإعلام.

“أمتنا تدخل هذا الصراع مكرهة، لكن غايتنا راسخة؛ فإن شعب الولايات المتحدة والحلفاء لن يعيشوا تحت رحمة نظام خارج عن القانون، ويهدّد السلام بأسلحة دمار شامل، سنواجه هذا التهديد الآن، (…) حتى لا نضطر لمواجهته لاحقًا بجيوش من رجال الإطفاء والشرطة والأطباء، في شوارع مدننا” جورج بوش ١٩ مارس ٢٠٠٣

جاء هذا الجو المشحون والرهيب الذي كرّست له الإدارة الأمريكية كل وسائلها على حساب الأصوات الداخلية التي حذرت من خطوات «بوش» المجنونة، إلا أن أحدًا لم يلتفت إليها، حيث “الأمة في حرب مع الإرهاب”، هنا لا مجال لأسئلة كان تجاهلها ثمن الفشل الذريع اللاحق للولايات المتحدة في العراق، الفشل الذي فجّر الصراعات الطائفية في بلداننا وأوجد حواضن وبيئات للعنف والتنظيمات الدموية وصولاً إلى التجلّي الأبرز لها اليوم في الدولة الإسلامية «داعش».

في عام ١٩٨٣ كان عدد المؤسسات المتحكمة بوسائل الإعلام المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ٥٠ شركة مختلفة، وكان المشهد بطبيعته متنوّعًا نتيجة تعدد المحطات الإعلامية والإذاعات وانتهاج كلٍ منها خطها التحريري الخاص، ومع تعاقب الإدارات الأمريكية وتبادل الأدوار بين السلطة والمال فقد تقلّصت إلى ٦ شبكات إعلامية كبرى الآن مملوكة لرجال أعمال يتحكمون في مفاصل الرأي العام الأمريكي يسيطرون على المعلومة ويؤثرون بشكل مباشر في السياسة الداخلية والخارجية ومجالات الثقافة وفضاءات الوعي.

منذ التسعينات، تطرح الحكومة باستمرار مشروعات تتعلق بالتجارة الحرة «Free Trade»، كانت بعض الصحف الأمريكية قد ذكرت رقم ٧٠٪ من الأمريكيين كرافضين لهذه المشاريع التي تضر بالاقتصادات المحلية برأيهم وتعطي مجالاً أكبر للاستثمارات الأجنبية، إلا أن القنوات الرئيسية كانت حاضرة لتقديم هذه المشاريع في صورة واعدة، وتستضيف في سبيل هذا محللين واقتصاديين وكتاب رأي يسهّلون لها المهمة، ضمن سياق يضمن تمرير مشاريع الحكومة وسيطرة رجال الأعمال المستفيدين مُلّاك هذه المحطات على السوق في نفس الوقت.

في العالم العربي، تبدو سياسة الإلهاء دستورًا داخليًا للحكومات في التعامل مع الشعوب، وهنا تأتي مصر في حكوماتها المتعاقبة وحكومات الظل المندرجة تحتها كزبون دائم لمثل هذه الأساليب، نستعرض آخرها ما حصل مع “مفجر الثورة المصرية”، كما يعبّر عن نفسه، شاغل حديث الناس ونكتة المجالس «توفيق عكاشة»، بعد لقاءه بسفير الاحتلال الإسرائيلي في منزله ثم ضربة الحذاء الشهيرة التالية التي وجهها نائب في البرلمان وإسقاط عضويته لاحقًا والضجة الإعلامية التي صاحبت كل هذا من الصحف والقنوات المصرية، والتي بدت كما لو أنها تمنَّت أنه لم ينتهي!

في الوقت الذي يؤكد فيه «مصطفى الفقي» السياسي والدبلوماسي المصري السابق، ضمن حلقة بثت في حينه على قناة الحياة، أن عكاشة “لم يكن يجرؤ أن يجلس مع السفير الإسرائيلي دون موافقة المخابرات والأمن الوطني”. الحلقة التي تناولتها صحف مصرية وحذفت من اليوتيوب لاحقًا.

وعلى طريقة “ابتكر المشاكل، ثمّ قدم الحلول”، نجد البرلمان المصري يقرر في جلسة منع فيها «عكاشة» من الحضور حسم الجدل وإسقاط العضوية عنه، من خلال إجراءات تمت بشكل سريع وسط تساؤلات من قانونين حول الكيفية التي جاءت فيها.

هنا نستطيع أن نكوِّن مقاربة أكثر وضوحًا للإلهاء الذي نقصده، بين الإشغال وقياس الرأي العام، إلى جانب الأساليب الكلاسيكية في تصعيد قضية شهيرة لنجمي تمثيل إعلاميًا بعد إنكار الأول إنجابه من الأخرى، أو حبس ممثلة على ذمة التحقيق بتهمة حيازة مخدرات، والتحفّظ على راقصة أخرى والإفراج عنها بعد «بلاغ غامض» ورد إلى النيابة، أو حبس مجموعة من الشباب اتهموا بالمثلية، فالإفراج عنهم، كل هذه الفقاعات يتم التعامل معها بحرفية من قبل السلطات وأذرعها داخل المؤسسات الإعلامية لتستوفي حقها وزيادة من الجدل في الأوساط الشعبية وعلى صفحات التواصل، في الوقت الذي يستفرد فيه السياسي بالقرارات الكبرى والمصيرية في الداخل والخارج.

يقدم المفكر الأمريكي اليساري الشهير «تشومسكي» عدة نصائح للسياسيين لإلهاء الشعوب، ويختمها فيقول: “حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، (…) اجعل الشعب منشغلاً، منشغلاً منشغلاً، دون أن يكون له وقت للتفكير”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق