الثلاثاء، 24 مايو 2016

الهوية الأخلاقية: بين المثاليات والفصام




- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ الجمعة 27 مايو 2016.

هناك مناطق محرمة في عموم مجتمعاتنا العربية لا يبدو أن أحدًا مستعد للدخول إليها وتفكيك حقول الألغام المنتشرة بها، الجميع يصاب بالذعر، ويتمترس خلف مقدمات تمهيدية ومبررات يبتغي من ورائها دفع اللَّوم والتجريح الذي قد يطاله عند طرح أي فكرة عن حقيقة ما يجري في تلك المناطق المظلمة، أو الطبقة السوداء المتخثِّرة، والمتعفِّنة، أسفل المجتمع؛ والتي تسارع قطاعات واسعة فيه بالتزامن مع الأجهزة الحكومية والدعائية إلى ردمها والتغطية عليها -بل وتزيينها- بدل المكاشفة حولها وإطلاق صافرات الإنذار وطلب النجدة وإيجاد حلول، إنها منطقة الجرائم الأخلاقية، أو بطريقة أخرى: إشكالات الهوية الأخلاقية للمجتمع.

ذكرت صحيفة «الرياض»، أن عدد “الجرائم الأخلاقية” في ٢٠١٠ حسب تقرير نشرته «هيئة التحقيق والادعاء العام» قد بلغ  ٢٨ ألفًا و٥٤٠ قضية، وعلى الرغم من استنفار مجلس الشورى حيال هذه الأرقام، حيث صرَّح بأن هذه الأرقام “تشكِّل خطرًا على الاستقرار في المستقبل”، إلا أن عددها قد زاد بفارق ما يزيد على ثلاثة آلاف قضية بعد عام واحد فقط، ففي عام ٢٠١١ نشرت صحيفة «الوطن» السعودية عن الهيئة أيضًا أن عدد الجرائم قد بلغ فعليًا ٣١ ألفًا و٦٢٠ قضية!

كما نشرت دراسة صادرة عن كلية التربية بجامعة الملك سعود، أن معدل التحرّش بالأطفال قد بلغ حتى عام ٢٠١٤ حالة تحرّش واحدة بين كل أربعة أطفال (١-٤)، كما تتحدث دراسة أخرى عن أن ٤٩٪ من البالغة أعمارهم ١٤ عامًا من إجمالي عدد السكان قد تعرّضوا للتحرش!

ليست المشكلة حصرًا في هذه الأرقام المنشورة بطبيعة الحال والمتداولة، ولا في الصدمة التالية بعد الاطلاع عليها، بل في تعمُّد تجاهلها وإيكال مثل هذه الأمور إلى الصدفة، والرهان اللا مسؤول على المستقبل، أو التنصّل من أي دور توعوي -ولو جزئي- في انتظار الدور الحكومي، تزامنًا مع عناوين «العيب» ومدى قباحة الدور الذي تلعبه هذه المفاهيم المغلوطة في التغطية على الكارثة التي تنتظرنا جميعًا كمجتمع، بين رهاننا على المخيال الأخلاقي والفصام الذي تثبته هذه الأرقام.

إننا عندما نتحدث عن النموذج الافتراضي لدور هذه المفاهيم المضلِّلة فإن الواقع سيفضي بنا إلى توجيه اللوم إلى الضحية بدل الجاني، والتضييق عليها بدل احتوائها ومنحها الأمان الضروري وما يعنيه هذا من استعادة ثقتها بنفسها، فنحن نتحدّث عن إفرازات ثقافية مضاعفة لا تتوقف عند مجرَّد الجريمة، وآثار رهيبة تبدأ بعد هذه الأرقام وليس من خلالها، الأمر الذي يحولها تدريجيًا إلى ظاهرة.

لا يتلقَّى الفرد في مجتمعاتنا أي حصص من الوعي المنظَّم حول الثقافة الجنسية، ولا تكاد تسمع مثل هذه الموضوعات الرئيسية والأساسية إلا عبر برامج الفتوى غير المؤهلة أصلاً لمناقشة مثل هذه الأمور، ويُترك هذا لمحض الصدفة عبر التجارب والأخبار والمحتوى غير الدقيق على شبكة الانترنت. وفي إزاء محاولات التعتيم والنظر بعين الريبة ومظاهر الإرهاب المعنوي التي يتلقّاها الفرد عند محاولته مناقشة أيًا من هذه التفاصيل المتعلقة بهذا الجزء الحيوي منه، تكبر هوية جنسية مشوّهة لديه، قائمة على الخوف والاستلاب والعبث وهواجسه الدائمة حول «المحظورات».

في أثناء هذا، يسيطر رجال الدين على الحديث في هذه الشؤون، ورغم أنهم لا يملكون أدنى قدرة ولا جاهزية على معالجة مثل هذه الموضوعات، بحكم التخصص، إلا أنه ثمة إشكالٌ آخر أكثر مأساوية وهو اعتبارات «العصمة والقداسة» والوثوقية المطلقة التي أوهموا الناس بها على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي يخوِّلهم ببساطة لمناقشة أكثر المساحات الحساسة المتعلقة بالهوية. كيف يتم الأمر؟!

يُنظر دائمًا إلى أي موضوع يتعلق بالجنس، أو التواصل بين الجنسين، أو حتى الطبيعة النفسية، على أساس أنها موضوعات «مشبوهة»، وقد تتعلَّق بالحُرمة الدينية في مجتمع يعطي أولوية دائمة للتديّن ولو كتقليد اجتماعي وعلى مستوى ظاهر، وعلى الرغم من أن هذه الموضوعات هي أجزاء أصيلة وحيوية في الإنسان، وهي علوم تدرس بحد ذاتها، إلا أن رجال الدين يضمُّونها تحت عباءاتهم محكمين سيطرتهم عليها، ضامنين بذلك أكبر قدرة من التأثير على المجتمع وتطويعه.

لا يزال المجتمع غير قادر -تمامًا- على إشراك المرأة في المجال العام، وهذا يعني أن المجال الحيوي العام قاصر عن احتواء الجنسين، كل جنسٍ يرى في أبناء جنسه عالمه وحسب، ومجال تعريف هويته الجنسية هو هذا العالم الصغير، سواء كان ذكرًا أم أنثى، والذي يحرِّم عليه الخروج عنه إلى الآخر الذي يتكامل به، وهذا يتعلق بأسباب متداخلة من مزيج بين فهومات متطرفة للدين وتقاليد القبيلة، والسياسة الحاكمة عليهما.

ومن هنا تظهر المشاكل المتعلِّقة بالثقافة الجنسية، سواء في محيط العمل أو السفر أو حتى ضمن مؤسسة الزواج المنشودة، فنجد أن صحيفة «عين اليوم» السعودية تذكر أن أحد الأسباب غير التقليدية في الانفصال بين الزوجين هي «المثلية الجنسية» لدى الزوجات، وهو سبب نستطيع ملاحظته لدى الجنسين على كل حال. وبإزاء أرقام مرتفعة للطلاق في المملكة، والتي بلغت ٧ من كل ١٠ حالات الزواج (٥٤ ألف و٤٧١ حالة طلاق خلال العام ٢٠١٤)، يبدو أن الأسباب الكلاسيكية، أو ما يعبَّر عنها في المجتمع بـ “القسمة والنصيب” هي غطاء يتم استبداله عن الأسباب الحقيقية التي يجب الحديث عنها!

لدينا مشاكل ضاربة في العمق متعلقة بمؤسسة الزواج نفسها، بدءً بتدخّل ذوي الطرفين في الاختيار بل والإقرار، ومرورًا بالمثاليات التي يتم الحديث عنها حول أهلية الدم والعرق والحسب والنسب، والمفاهيم المتخلّفة العابرة من خلالها، والشكل «الإجرائي» للزواج؛ حيث تتأخر معاني الحب والرحمة حتى في هذه المواطن التي هي أخص ما هي موجودة لذلك، وانتهاءً بالأكلاف الباهظة في سبيل كل هذا. نعم نحن لا نزال في هذا المربّعات، ونحتاج من الوقت الكثير للنزوح عنها، وأعني “النزوح” بما فيه من مشقة وما يحتاجه من جهد، لكنه نزوحٌ حتمي مستحق.


إنه لا يجب أن تظلَّ مجتمعاتنا أسيرة صمتها في ما يجب الحديث حوله، ولا يجب إذا تحدّثت أن تدور في نفس دولاب المجتمع «المحافظ بطبعه» وعناوين العفة والشرف، فالإشكالات التي تواجهنا حقيقية هذه المرة وتهدد أساس هذه المجتمعات، وهو الفرد، وصحته الفكرية وبنيته الهوياتية، وإذا ما ظللنا نستمتع بسكرة الأكاذيب لنهرب بها من هذه الحقائق، فسنصحوا غدًا على واقع أكثر مرارة، وحينها لن نستطيع مواجهته بالأدوات المتاحة لنا اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق