الخميس، 19 مايو 2016

ماراثون التواصل الحديث





لم يكن في بال «فيديبيدس» في ٤٩٠ قبل الميلاد وهو يقطع مسافة ٤٢ كيلو مترًا جريًا على قدميه من مدينة ماراثون حتى العاصمة اليونانية أثينا، مبشرًا أهلها بتمكنهم من إحراز اليونانيين انتصارًا ضد الفرس، أن كائنًا بشريًا آخر، يشبهه، سيأتي في زمان آخر، سيتمكن من إطلاق ذات المعلومة من على أريكته الوثيرة في «تويتر» يستطيع العالم كله مشاهدتها، لا أثينا فحسب!

الأمر ليس مزحة.. يبدو الإنسان الجديد في سباق بلا أنفاس مع سرعة حركة التقنية الحديثة، ماراثون لا نهائي هذه المرة مع وسائل التواصل وتطبيقاتها المتعدّدة، إنها تسبق حركة استيعاب المجتمعات وتوالد الأجيال بل وتتجاوزها. نحن هنا أمام طور جديد مختلفٍ كلية من أطوار التواصل، لغة جديدة تفصل بين جيل وجيل، وعسيرة الفهم والإدراك ربما إلى درجة القطيعة.

لم يكن الإنسان القديم في عزلةٍ عن هذا الاندهاش الذي يلحقنا اليوم ما أن نتوقف عنده؛ فإنسان النحت على الشجر والحجر بعلامات لا يفهمها إلا من أطلعهم عليها من بني قومه، وإنسان ألواح الخشب والجلود بعدها، لا يمكن موازاته مع جماعة بشرية لاحقة اعتمدت لغة واضحة في التخاطب فيما بينها.

لم يكن في وسع الإنسان الأول أن يتخيّل، وهو يرسم إشارات غير مفهومة على الرمل، أن يتوصل إنسانٌ آخر إلى لغة جامعة يشترك فيها ملايين البشر اليوم، بأحرف وكلمات ودلالاتٍ متعددة ومتباينة؛ فكيف لو علم بأننا لا نملك اليوم لغة واحدة، بل ستة آلاف لغة ثرية حول العالم بحسب «اليونيسكو»!

في عالم أصبح يتحرك بمنشور على فيس بوك، و١٤٠ حرفًا على تويتر، أو حتى بـ «لمسة» اصبع ضلّت طريقها لتتصدّر وكالات الأنباء، نحن نودّع العالم القديم القريب كلية، عالم الأوراق الصفراء والأحبار وآلات الطباعة والمراسلات البريدية، ونُحكم سيطرتنا عليه.

فأصبح بإمكان إنسان اليوم أن يطّلع على كل الصور الأرشيفية لمدينته والتي تعود لمئة عام، ينشرها أحدهم على صفحته متاحةً للجميع، في حين لم يكن هذا ليطرأ على بال أحد لحظة التقاط الصورة، فقد كانوا يرونها آلة اعتباطية مسلّية تتلف مع مرور الوقت، ولم يدر سكان تلك المدينة أن أحد الأحفاد سيراهم من خلالها! هكذا يسيطر الإنسان على التاريخ ويتّصل به؛ حيث لم تعد هذه الوثائق التاريخية حصرًا تحت تصرّف أولي السلطة والجاه وحدهم، بل أصبح هذا اليوم لكلّ أحد!

ينفصل الإنسان الجديد تدريجيًا عن واقعه، إنه يصنع عالمه الخاص حسب اختياراته التي يفضّلها بعيدًا عن الشروط المفروضة عليه في عالمه المادي الواقعي الذي يعيشه؛ فهو الآن لا يشعر بالالتزام الحصري أمام أبناء عمومته أو أصدقاء الدراسة في مدينته أو قريته، طالما أنهم لا يشاركونه اهتماماته وميولاته، هو يقدم هنا رهانًا أكبر على قدرته في التواصل مع من يلتقي معهم على ذات مستوى التفضيل والاهتمامات ولو كانوا في بلد أخرى!

إن هذا الطّوْر العابر للقارات المختلف كلية صَادَر الإنسان من واقعه تدريجيًا، ولا أقصد هنا ضرورة السيطرة عليه، بل لا يمكن لأحد -على الإطلاق- السيطرة عليه، إلا إذا تخلّينا عن شرط «الأنسنة» وتحوّلنا إلى روبوتات؛ فهذه التقنيات التي فتحت عين الكائن البشري على إمكانية التواصل الحر وتجاوز المكان خلقت عنده حالةً من الشراهة وعدم الاكتفاء، وهذا هو الإنسان! وأمام هذا الواقع المتغيّر كلية نحن أمام أسئلة ضرورية حول تحرّك المجتمعات والتباين الثقافي والموروثات والتقاليد ورؤيتنا للمسافة بيننا وبين التاريخ، هناك أسئلة كثيرة تنتظرنا من هذا النوع.

إن مسافة لغة وشكل التواصل بين جيلين، الأب وأبناءه على سبيل المثال، أصبحت الآن أبعد بكثير، حيث سيصبح النقاش الرائج حول التقاط طفل لجهاز لوحي مثلاً وبقاءه لوقت طويل عليه، في عزلة عن محيطه المحسوس القريب ودون جهد بدني أو جسدي أو اختلاط مادي مع أقرانه، الأمر الذي يحجب عنه فرصة صقل الذات وتمايز الاهتمامات، مسألة لن يتطرق أحد لعرضها ربما، في إسقاطٍ مشابه بين بداية ظهور التلفزيون وردة الفعل الحادة تجاهه وكيفية التعاطي معه الآن. ولأن الجميع يتساوى أمام التكهّن بطبيعة شكل الحياة القادمة فلا يبدو أن مثل هذه التساؤلات ستلقى اهتمامًا لدى الإنسان المتحفِّز للمتغيِّر باستمرار، عندما تتحوّل هويته بالكامل والنمط الذي تبدو عليه حياته!

إن لغة الإنسان الجديد اليوم، أو وسائل التواصل الحديثة، تجاوزت إمكانات التطوّر الطبيعي للثقافات حول العالم، خذ على سبيل المثال شكل التواصل بين الجنسين في المجتمعات المحافظة؛ فلم تكن المرأة ولا الرجل داخل هذه المنظومة المتشدّدة قادرين على التعرّف على ملامح واحتياجات بعضهم البعض، حتى أذنت هذه اللغة بكسْر هذا الجمود، التطوّر الذي لم تستوعبه هذه المجتمعات، ورغم إيجابيته إلا أن حركته السريعة أظهرت لنا أشكالاً من التشوّه أو العزلة، وتفاوتًا بين الثقافة الملتبسة القديمة والطبيعة الأكثر إغراءً وتعبيرًا عن جوهر الكائن البشري التي فرضتها هذه الوسائل؛ الالتقاء الإنساني والشراكة الأصيلة بين الجنسين في الخروج إلى فضاءات الحياة.

وصل «فيديبيدس» إلى أثينا وقد استنفد كل قواه، ولم يمض بعض الوقت منذ وصوله حتى خرّ صريعًا نتيجة الإعياء. ويا ترى، من منا اليوم سيكون مضرب أمثالٍ للأجيال القادمة، ومثار دهشة كـ «فيديبيدس»؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق