الأربعاء، 20 أبريل 2016

جوابًا على سؤال بثينة العيسى: الحج إلى المعابر




- نُشر على صحيفة إيوان24 بتاريخ 19 أبريل 2016

نشرت الكاتبة الكويتية «بثينة العيسى» في ١١ من الشهر الجاري مقالاً دافعت فيه عن زيارتها الأخيرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، الزيارة التي لاقت جدلاً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي دفع «العيسى» بطبيعة الحال لنفي التهم التي لحقتها في مقالها الذي عنونته بـ «التطبيع مع من؟».

بدأت الكاتبة باستعراض الخطوات الإجرائية التي تمت منذ تلقّيها دعوة من مؤسسة أدبية في رام الله للحضور، ومرورًا بالشكل القانوني الذي عبرت من خلاله إلى الأراضي المحتلة، وصولاً إلى اجتيازها نقاط عبور أجهزة سلطات الاحتلال والإقامة في «فندق فلسطيني».

شرعت «العيسى» مباشرة في الدخول إلى التوصيفات «الواقعية» كما أشارت لها حول ما قامت به، فهي تقول بأنها التزمت بـ “معايير الحملة الفلسطينية للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل”، والتي تتم بشكل لا حضور للتطبيع فيه مطلقًا، لكنها تذكر بعد قليل أن هذه المعايير –التي تنفي التطبيع بلا شك– تتعلّق بأن يحصل حامل جواز السفر العربي إلى الأراضي المحتلة داخل حدود ٦٧ تصريحًا من سلطات الاحتلال فقط، “وليس تأشيرة دخول”. (!)

ثم تستنكر «العيسى» لاحقًا وتتساءل: وهل ستكونون –أيها المستنكرون– أكثر حرصًا على المقاطعة من اللجنة المعنية هذه؟! السؤال الذي فضّلت من خلاله أن تختار تجاهل فكرة أن الحق العربي الفلسطيني التاريخي في الأراضي المحتلة والنضال من أجله ليس حصرًا على الفلسطينيين وحدهم، هذه الفكرة تحديدًا تأتي في ذات السياق الذي يطرحه المطبّعون، عزل قضيتنا الأم عن محيطها العربي وتضامنها العالمي وتحجيمها على المستوى الشعبي، وحصرها في الفلسطينيين وحدهم!

لكنها في المقابل، نراها وقد غلب عليها الشعور بالأسى وهي تصف رفض مثل هذه الزيارات، والذي اعتبرته –هذا الرفض– محاولةً «لعزل الفلسطينيين ثقافيًا»، في الوقت نفسه، الذي تحصر فيه حق مساءلة محاولات التطبيع ومحاسبتها والتمسك بحق تحرير الأراضي المحتلة، على الفلسطينيين!

هذا التناقض في المعايير لم يتوقف هنا، فـ «العيسى» تتحدث عن “اعتراف بالواقع” وليس “اعترافًا بشرعية الاحتلال!”. الواقع، الواقعية، هذه الكلمات المفضلة لدى أولئك! فدائمًا ما تساق في سياق مثير يبدو للقارئ أكثر منطقية، ولكنها من جهةٍ أخرى تُستخدم للتنصّل من همومنا وشأن قضايانا المحقّة؛ إنه الواقع المستسلِم، المرتكس والمنتكس والمهيمَن عليه.

تتحدث الكاتبة عن “وجوب” قبول دعوات ثقافية داخل حدود ٦٧ حصرًا، وكأنها تتحدث عن ضفة غربية مستقلّة ومحكومة بواقع إجماع شعبي واستقلال وطني وإرادة منفصلة، متجاهلةً طبيعة الأوضاع المستلبة في تلك المناطق، بداية من السيطرة الكاملة لسلطات الاحتلال على تلك الأراضي، والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية الحالية والاحتلال، إن جاز تسميتها «سلطة»، مرورًا بقوانين الفصل العنصري المسلَّطة على العرب وسياسات الجدران العازلة، وليس انتهاءً بتغلغل المستوطنات الصهيونية وتمددها وجرائم عصابات المستوطنين اللاحقة داخل هذه الحدود الافتراضية.

يذكر موقع الخارجية الإسرائيلية تحت فقرة مدرجة تقول: “هل الضفة الغربية أرضٌ محتلة أم متنازع عليها؟” فيجيب موقع الخارجية: “مطالبة إسرائيل بهذه الأرض المتنازع عليها لا تقل شرعية عن مطالبة الفلسطينيين بها”، ونصوص أخرى مُدرجة تتحدث عن «شرعية» وجود المستوطنات داخل حدود ٦٧، مع إصرار مشار إليه على استحالة تراجع الوجود الصهيوني ضمن هذه الحدود.

مقال في ٢٠١١ لسفير «إسرائيل» السابق في الأمم المتحدة «دور غولد» على لوس أنجلوس تايمز تحدث فيه عن أن كبار الاستراتيجيين الإسرائيلين يعتقدون بأن على «الدولة اليهودية» أن تحتفظ بـ «حدود منيعة» خلف خطوط ٦٧. وبالفعل، فسلطات الاحتلال تسيطر على الضفة الغربية بسياسة الفك، ومتهمة دائمًا من منظمات حقوقية دولية بارتكابها جرائم حرب حقيقية، ليس آخرها إعدام جريح فلسطيني في مشهد مصوّر، حيث يبدو أنه لا حاجة لتوثيق هذه المنظمات مع واقع الأخبار اليومية ومشاهد الانتهاكات الحية!

هذا هو الواقع المأساوي في تلك المناطق، وهذا ما يجب نقاشه والعمل على ضوءه، وهذه هي هموم العربي الفلسطيني وهو يرى الانتهاكات كل يوم في واقع حياته اليومية وكأنها أشبه بالروتين الذي يجب عليه أن يتوقّعه قبل نومه ويتعامل معه في اليوم التالي، ليأتي هؤلاء المثقفون من أبراجهم العاجية مطالبين بقية العرب القدوم إلى الأراضي المحتلة وإلقاء قصائد الزنبق والاقحوان على بعد مئة متر من انتهاك جديد. ومن يسهل عليه انتحال الأعذار للذهاب إلى حدود ٦٧، سيسهل عليه إبداع أعذار أخرى للذهاب غدًا إلى أراضي أبعد من ذلك، وكلهُ تحت حجج مشابهة لكسر «العزلة الثقافية!».

إن هذه العزلة الثقافية التي تدعو «العيسى» للمساهمة في كسرها، هي في بلداننا العربية لا في الأراضي المحتلة، إن هذه العزلة هي في تهميش قضية الحق الفلسطيني في ذاكرة الأجيال، حق العودة واستعادة الأراضي المسلوبة وأن يعيش العربي الفلسطيني عزيزًا مكرمًا بسيادته الكاملة على أرضه؛ فالقنوات والمحافل والمنصات العربية في مجملها هي أبعد ما تكون اليوم عن دورها في مواجهة الاحتلال، وأصبحت الأخبار القادمة من هناك هي من قبيل الأخبار المكرورة المزعجة –لا المؤرقة–، والانصراف إليها يكاد يكون من قبيل الترف أو الادعاء أو تحصيل المكاسب.

إن هذه العزلة الثقافية، هي في المساهمة في دعم أشكال التطبيع فيها، أي في بلداننا، وفي الدّفع ناحية التصالح مع الحج إلى المعابر، والتهلل في وجه العسكري الصهيوني الكالح المغتصب للحق والأرض، وتوسّله بإيماءات بلهاء بغية الحصول على إذنٍ بالعبور! هذا التطبيع المبطّن لا يدفع ناحية العزلة الثقافية الحقيقية لعرب فلسطين فحسب، بل مصادرة تدريجية لكل حقوقهم، والتسليم بالأوضاع القائمة الُمذلّة، تحت بسطار المحتل وعلى أرضهم.

إن دخول الأراضي المحتلة التي قامت على جماجم أهلها، والتعامل مع سلطات الاحتلال التي ارتكبت وما زالت ترتكب جرائم حرب من جهة، وسياسات تمييز وتنكيل وتعذيب واعتقالات يومية في حق العرب الفلسطينيين من جهة أخرى، هو اعتراف بشرعيتها. إن التعامل مع هذه السلطات رغبةً، والوقوف في معابرها العنصرية والمدجّجة بالسلاح، والتي يتم فيها عشرات حالات الإذلال اليومية، هو رضوخ لها، وتسليمٌ ضمني بهذا «الواقع».

تجادل «إسرائيل» دائمًا في دعاياتها حول مزاعم التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتؤكد على هذا في كل مرة أمام العالم الغربي في كل محفل وعلى الصفحات الترويجية الناطقة بالعربية، هذه المساهمات «الثقافية» القادمة من الخليج وبلاد العرب تدعم هذه الرواية، إنها تنعشها بشكل استثنائي! فهاهم العرب يأتون إلينا من كل مكان بشكل اعتيادي لحضور ليلة في ندوة شاعرية تستعرض تاريخ الأدب الغزلي العربي الحديث!

أخيرًا، أؤكد أني لست حريصًا على اتهام الكاتبة بالتطبيع، ولست مع من يباشرون إلى التخوين؛ التهمة التي يجب أن تكون أكثر جدية ورصانة وحساسية، بل وأعتقد أنها تؤمن بالحق الفلسطيني والمآسي الواقعة، في حين أنني هنا أناقش بالدرجة الأولى ما أعتقده حججًا بسيطة وأفكارًا توفيقية عرضتها الكاتبة في ثوب أدبي مبالغ فيه أكثر قربًا إلى دغدغة العاطفة منه إلى الحقائق القائمة.

إن الاحتلال وأجهزته الأمنية وجيشه الوحشي الذي لا يبالي بهدم البيوت على ساكنيها ومصادرة الأراضي وقتل الناس في الشوارع  وقصف أطفال على الشواطئ لا يفهم لغة السهرات الرقيقة والقصائد الناعمة، بل لغة تفهمها جيدًا سواعد المقاومة التي تثبت في كل مرة أنها الرهان الوحيد، لغة نزار عندما قال: “اضربوا اضربوا بكلِّ قواكمُ واحزموا أمركم ولا تسألونا.. نحنُ أهلُ الحسابِ والجمعِ والطرحِ فخوضوا حروبكم واتركونا”، حيث ما أُخذ بالقوة لا يمكن استرداده إلا بالقوة، وحينها.. فلتكن ألف ليلة وليلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق