الأربعاء، 28 أغسطس 2013

بين الزعيم الماجد والبارجة الحلم




كتبتُ في تويتر مرة: «الشعوب العربية لديها مشكلة في التجريد والتقاط العصاة من المنتصف».

وبهذه التغريدة أستفتح مقالي. فإذا لم تكن سنيًا في عالمنا فأنت شيعي. وإذا لم تكن شيعيًا فأنت وهابي. وإذا لم تكن مع مرسي فأنت مع السيسي. وإذا لم تكن مع السيسي فأنت مع الإخوان. وإذا كنت إخواني فأنت إرهابي. وإذا لم تكن مع بشار فأنت مع القاعدة والتدخل الأمريكي. وإذا لم تكن مع رجال الدين. والذين هم مجرد أيدلوجيا وتنظيمات. فأنت ضد الدين. وإذا كنت مع العلمانية فأنت كافر ضد الشريعة. هكذا تعوَّد العقل العربي «أو عُوِّد» أن يفهم الأمور.

ومن هنا تنطلق سلسلة لا نهائية من الكوارث المنطقية والأخلاقية بأسماء وشعارات مزيفة لا أكثر. فتجد الذي طالما كان ينادي بالحريات والحقوق فاشيٌ سادي يؤيد سحق جماجم الإخوان ومؤيديهم في «رابعة»! لأنه ببساطة يرى أن ذلك الملتحي الذي يموت ويُقهر أمامه ليس إنسانًا. ولا يستحق أن يكون إنسانًا. ليس ذلك الكائن الفريد والمعجزة الإلهية والذي يموت بلا تهمة. لأنه وببرود أعصاب «إخواني». و«إخواني» هذه كفيلة بتبرير قتل هذا الملتحي. ثم يعصب عينيه ويضع رأسه في التراب هروبًا متذرعًا بتهم هي مجرد أوهام وخيالات لكي يبرر بها ما اقترفه من جُرم إنساني في حق الشهداء ابتداءً ثم في حق ضميره ثم في حق أمانة وشرف الكلمة ليتبنّى مانشيتات زائفة من قبيل أنهم كانوا مسلّحين. أو أن بينهم عناصر خارجية من «حماس». إلى آخره من هذا الهراء. والذي يعلم هو في قرارة نفسه أنه هراء! وهذا ليس محل نقاشه الآن. لكنه عمومًا التخندق والعقل العربي الذي تحدثنا عنه.

إما بشار وإما الغزو الأمريكي. معادلة صعبة أليست كذلك؟ العقل العربي الأول مجددًا يعتصر ألمًا على ضياع الأراضي العربية واستقرارها في قبضة الغربي ابتداءً بفلسطين المحتلة وانتهاءً بليبيا المدينة للناتو. لقد استفزه تلويح المارد الأمريكي له بالسلاح من بعيد بعجرفه مع «غمزة» ساخرة في رسالةٍ مفادها أننا على أطلال دمشق أيها الأعرابي! لقد أتينا لنقتسم أرضًا جديدةً من أراضيك! لقد استفزه ذلك. فأسرع وتعلّق بكارفيتة الزعيم العظيم بشار! لقد جعله استفزاز ذلك الغربي له يرفع لافتات القومية ثائرًا على كل صور الدماء والأشلاء والمجازر المزيفة والبلاستيكية ليس إلا والتي يقول «الإرهابيون» أن زعيمنا ارتكبها. ليرمي بكل ما ارتحله فوق ظهره من شكوك وأوهام عند قدم ذلك الزعيم الماجد مدافعًا ومنافحًا عنه. فارشًا له أعذب الكلمات وأكثرها لمعانًا وبريقًا تكفيرًا عن لحظةٍ ربما تعاطف ومال إليها إلى أولئك «الإرهابيين». نعم لقد «تناسى» أطفال درعا وحمزة الخطيب والقاشوش. تناسى كل جثث الأطفال التي ما كان القناص يتوانى لحظةً في أن يتعمّد إصابتها في العين أو الصدر ليتأكد من وفاتها. تناسى قرابة ٩٠ ألف شهيد مدني. تناسى مالا يسعه حرفٌ ولا بيان لوصفه. ولو حاولت توصيفه في عشرات ومئات الكتب لبقيت في خجلي. لقد تناسى كل هذا ليقف «ببساطة» في صف بشار ضد «العدو» الأمريكي. فالعقل العربي «مجددًا» يقول له: إما أن تكون مع بشار القومي أو القاعدة الحالمة بدولة الخلافة أو الغازي الأمريكي! هكذا كان يفكر الأحمق.

والآخر كذلك. يستبشر فرحًا بقدوم الأم المحررة أمريكا «والتي هي حل وخيار جيران سوريا الذي يروَّج له». يالها من بشرى! أن تحضر بعد كل هذا الدم ببالغ الإنسانية لتنقذ ما تبقى من الشعب المسكين. لتوقف نزيف الدم. إنها أمهم الحانية. وكيف لا ترفق الأم على صغيرها؟ إذًا ستأتي أمريكا. وتكسر رقبة بشار. تحت شعار: «أمريكا ولا بشار!». ثم سترحل بسلام. وتأتي دولة الخلافة عبر «المجاهدين» على الأرض. وإن قاومت «المجاهدين» بعد أن تسقط بشار. فلا بأس. المجاهدون لها بالمرصاد. فتخندقوا معها يرحمكم الله. رغم أنها في العراق قتلت أكثر من ٦٥٠ ألف مدني عراقي حسب منظمة لانسيت الطبية؟ رغم أنها وإلى الآن تغتال الإنسان الأفغاني واستقلاله بترسانتها العسكرية الملعونة هناك؟ رغم وأنها تعمّق التحالف مع الأنظمة المستبدة في العالم العربي لتضمن أن تسير مخططاتها ومصالحها بشكل سليم؟ رغم وأنها الحامي الأول والدرع الواقي لكيان الإحتلال؟ لا يهم. الآن نريد التخلص من بشار ولو كلّف ذلك أي شيء. فكرة سخيفة أليست كذلك؟ لكن فتّش حولك. ستجد كثيرين يتبنونها. خصوصًا من البسطاء وجمهور «الواتساپ!». العقل العربي مجددًا. 

أما العقل العربي الثالث. فمع تدخّل أمريكا لإنهاء نظام بشار. وضد تدخل أمريكا لأنها من المحتمل «بل من المرجّح» أن تضرب جبهة النصرة «القاعدة» والتي هي تعبر عن الوجه فاقع اللون للشريحة الحالمة بدولة الحدود والجزية. دولة «الخلافة» المنشودة! هذا العقل موجود رغم أنه يناقض نفسه. ويعرف أنه يناقض نفسه.

وجهات نظر محبطة أليس كذلك؟

لكن دعني أتسائل «وأنا لا أزعم أني أملك بديلاً عن هذه الخيارات». ألم يكن الأولى بدل أن نلعن بشار ونؤيد أمريكا أو نلعن أمريكا ونقف مع بشار أن نلعن حكام الدول جارة سوريا الذين لا يساوون نعل صبي العاشرة الذي خرج في هتافٍ ضد نظام الطاغية واستشهد برصاصة «شبّيح» قذر بعزةٍ وكرامة لا يحملها هؤلاء الحكام؟ ألم يكن الأولى أن نلتفت إلى هذه الدمى في يد ذلك الأمريكي الذكي والتي كفّت يدها عن سوريا بل سلّمتها له طواعيةً وخططت لذلك؟ هنا يجب أن نقف بحزم ونفكّر جيدًا كيف أننا اُستغفلنا جميعًا ونحن نهتف في خنادقنا البائسة والتي حفرها الأمريكي نفسه. هنا يجب أن نخلق عقلاً يفكّك المفاهيم ويجرّدها. عقل مسؤول وواعٍ بما يدور حوله. لا عقل الدراويش «الهتّيفة» الذين يعتاشون على حروبهم الأيدلوجية الفارغة كعقولهم. ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق