الأحد، 18 يناير 2015

أخلاقية المقاومة





- نُشر على صحيفة التقرير بتاريخ 21 سبتمبر 2014

بعد حرب الواحد وخمسين يومًا الأخيرة على قطاع غزة -الأطول في تاريخ الصراع العربي الحديث- والتي رافقها خطابٌ عربيٌ وثقافيٌ متماهٍ مع الكيان المحتل في أدنى حالاته، ومبرّرٌ بل ومؤيّدٌ لممارسات الاحتلال الاستئصالية في أعلى حالاته، في صورةٍ صارخةٍ متجاوزةٍ لكل حدود المعقول والمنطق البدائي فضلاً عن أبجديات الإنسانية والأخلاق التي يحاول بعض هؤلاء احتكارها وتكييفها لمصلحة مواقفهم هذه.

هنا، لست بصدد التعرّض لتحليل هذا الخطاب الرَّخوي في أصله أو مناقشة حججه، فالرّدود عليه كثيرةٌ كما أنها شبعت تجاذبًا عبر ساحات النقاش والجدل طيلة الفترة الماضية، بل للتركيز على جزئيةٍ معيّنةٍ من جدل النقاش الدائر، وهي المحاولات المستمرة -غير البريئة طبعًا- لانتزاع البعد الأخلاقي من المقاومة الفلسطينية بفصائلها، وبالتالي دفعها في هاوية التوصيف الكلاسيكي لنموذجٍ بشعٍ كنموذج تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وذلك لغرض تصفية القاعدة الشعبية العريضة التي تتمتع بها المقاومة في العالم العربي وخنق روح التضامن الواسعة معها وجعلها في دائرة القلق والتوتر الدائم حول مشروعيّتها والتي طالما كانت – هذه المشروعية – شيئًا ناجزًا ونهائيًا في عقل الشارع العربي.

بالطبع، الذي دشّن هذا الرّبط بين (حماس) ومن ورائها المقاومة الفلسطينية المسلحة وبين (داعش) هو -وكالعادة- بنيامين نتنياهو -رئيس حكومة كيان الاحتلال- عندما وصف حماس وداعش بأنهما منتميان إلى نفس “الشجرة السّامة”، وفضلاً عن كون هذا التصريح قد شبع من السّخرية في المجالس وعلى مواقع التواصل، إلا أنه لا يبدو كتصريحٍ شاذٍ عن بقية التصريحات من نفس النوع والتي تعكس حالة هستيريا بالغة لفّت نتنياهو طيلة فترة الحرب في مقابل قوّةٍ صامدةٍ على الأرض في قطاع غزّة جعلته، وبغباء محض، يلقي بتصريحات سَمِجَة كهذه. غير أن هستيريا نتنياهو هذه لم تتوقّف عنده، بل امتدّت إلى كُتّابٍ عربٍ من نفس الفصيلة وإن تباينوا في الرّتب، ويكفيك أن تبحث في چوچل عن مفردتي “حماس وداعش” حتى تظهر لك تلك النماذج التي تدعم فكرة أن ما يدور ضدّ المقاومة كخيارٍ فلسطيني أصيلٍ هي ألعابٌ نصف مخابراتية، وتوافقات سياسية رغائبية -ليست بريئة- وليست مجرّد مشاغبات فردية.

“هذا النقاش، بدأ يصبح نوعًا من (الروتين السجالي) الذي يرافق كل عمل مقاومةٍ منذ أن تخلَّت الدول العربية عن واجبها في الصراع مع إسرائيل، كما أني أعتقد أن هذا السِّجال سجالٌ غير بريءٍ ومغرضٌ وحزبيٌ ”، هكذا وصف المفكر العربي ورئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة هذا الخطاب الرَّخوي الذي دار طيلة فترة الحرب في الصّحف وعلى شاشات التلفاز ومواقع التواصل، والذي يجتهد -بدوره المرسوم له- في تشويه المقاومة وهزّ قاعدتها الشعبية وتحميلها التكلفة البشرية، ونفخ سجلها بالتّهم، وتلطيخ صحائفها بالسّواد، ومحاكمتها كما لو أنها هي من ابتدأ الحرب على أرض فلسطين منذ عام ١٩٤٧م، وليس الكيان المحتل الذي اغتصب الأرض، وهجّر أصحابها، وهدّ البيوت فوق ساكنيها، وصادر الممتلكات الخاصّة والعامّة، وأدمن الدّم، وعمّر مدنه فوق المقابر وعلى جثث الشهداء نساءً وأطفالاً وشيوخًا، واجتث التراث، وطمس المعالم، وشوّه التاريخ، واحتكر الفضيلة وادعاءات المصالحة والسلام في «محرقة هولوكوست» استمرت قرابة السبعين عامًا حتى الآن.

من المؤسف أن نحتاج – في كل مرة – أن نستدعي هذه المفاهيم لإثبات بدهيّات فيما يخصّ الحق في المقاومة والدّفاع عن الأرض، ونحن بصدد الحديث عن أخلاقية المقاومة، فنحن هنا نفترض أن هذه الحقائق التي نستدعيها هنا من لسان قادة المقاومة تصل إلى أذهانٍ وعقولٍ قد استحضرت معنى المقاومة وصدّ العدوان وأصالة الحرية واسترجاع الحقوق، وقد أدركت مفاهيم النّضال والفداء، ولسنا هنا بصدد الدخول في نقاش بيزنطيٍ باردٍ لا ينتهي حول مشروعية المقاومة من حيث ما هي كمفهوم مجرّد.

نتحدّث هنا عن فصائل مقاومةٍ وطنيةٍ، أي بمعنى آخر مقاومة قُطْرية، تسعى لمقاومة المحتل داخل حدودها، وتؤكد باستمرارٍ عبر رموزها والمتصدّرين باسمها بأنه لا شأن مباشر لها بسياسات المنطقة، أو بالأصح هي لا تتدخَّل في صنع سياسات المنطقة أو الاصطفاف مع فريقٍ على حساب فريقٍ آخر لمنفعة لذلك الفريق أو ذاك، بل تساهم فيما له شأن بها وبالقضية بالعموم، ولا تسعى لحلمٍ امبراطوريٍ لا يؤمن بالحدود الوطنية ولا الأعراف الدّولية ولا ينطلق من الداخل الفلسطيني ولا يؤمن بالتوافق الشعبي لإعطاءه الشرعية ابتداءً، وهنا مفارقة بينها وبين فصيلٍ أو تنظيمٍ راديكاليٍ أمميٍ عابرٍ للقارات كـ (داعش).

المقاومة ابنة البيوت والأسر الفلسطينية بالكامل، لا تتبنى المقاومة حتى الآن فكرة التجنيد الخارجي أو “مجاهدين وأنصار” كما هي في أدبيات “الدولة الإسلامية”، بل أبناء المقاومة هم أبناء العوائل في رفح والشجاعية وبيت حانون وبيت لاهيا وجباليا. يجتمعون في الصباح على سفرة الإفطار بين آبائهم وإخوتهم وزوجاتهم وأطفالهم ليخرجوا بعد ذلك إلى الميدان، هذا هو الشعب الغَزِّي، كله في رباطٍ، وكله يده على الزِّناد، وكله عينٌ على الرغيف وعينٌ على السلاح، في صورة تفويج جماهيرية بديعة إلى ساحات الحريّة والنّضال استمرّت لعقود من الزمان، وستظل، بمباركة من الأسرة والعائلة ورجل الدين والفنان والطبيب وبائع الخبز والحلوى والذرة، كلّهم يتشوَّف النصر وكلّهم يصلّي لهزيمة العدو الذي طالما نكَّل بهم وسرق من عينيهم الأمل وغرس في أطرافهم الشّظايا وذبح الأطفال على مقاصل الحقد الأسود.

نتحدث هنا عن مفارقات من الجذر وامتيازات أخلاقية وشرعية بين حركات المقاومة في غزة وتنظيم جزّ الرؤوس داعش، فالمقاومة حركة وطنية، قُطْرية، لا تملك مشروعًا أُمميًا، معتدلة الفكر، واضحة المشروع، قِبلتها واضحة، بغايةٍ وهدفٍ مشروعَيْن، إضافةً إلى كونها فلسطينيةً مائةً بالمئة، من الأرحام الفلسطينية، وإلى التراب الفلسطيني. رغم أن التضامن العربي -كما حصل في حرب ١٩٧٣م- لن يعيبها، بل هو مطلوب، لأننا نتحدّث عن وطن عربي، وجزءٌ من كل، ونتكلم أيضًا عن بُعْد (الشرعية والتوافق الشعبي) هنا أصالةً لا عن (الكوادر على الأرض)، طالما اتفقت الغاية والهدف.

في أخلاقية المقاومة.. نستعرض تصريحًا هامًا لـ (رمضان شلح) -الأمين العام لسرايا القدس ثاني أكبر الفصائل المسلحة في قطاع غزة- في مَعْرِضِ حديثه في مؤتمره الصّحفي من بيروت بعد الحرب الأخيرة، وعند ذكره لمقتل طفل “إسرائيلي” بصواريخ السرايا في المدن المحتلة المحاذية لغزة، ما تُسمّى بـ “مدن غلاف غزّة”، حيث اعتبر ذلك “ليس إنجازًا من المقاومة” بقتلها ذلك الطفل، ولكنه قال وبحرارة “إننا لا نملك أسلحة متطوّرة تملك الدقّة في إصابة أهدافها، ونحن في حرب مقاومة لمحتل يملك الأسلحة والعُدّة والعتاد ويتعمّد إصابة الأطفال وقتلهم”، يقصد القصف الأخير الذي طارد فيه طيران الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة أطفال على شاطئ غزة، حتى قتلهم.

هنا نجد بوضوح، أن (شلح) لم يُلقِ باللوم على الاحتلال في قتله للطفل الإسرائيلي عن طريق الخطأ، كما يفعل الاحتلال عندما يتعمّد دائمًا تبرير قصفه للأطفال والمستشفيات والبيوت، بل والأبراج المأهولة بالسكّان، بأن المقاومة هي السّبب، بل نجد (شلح) هنا يلوم المقاومة، والتي هو أحد رموزها وأيقوناتها، بل ولا يعتبر ذلك إنجازًا.

يؤكد (بنيامين نتنياهو) – رئيس حكومة كيان الإحتلال – أن حماس “تسعى لإحداث محرقة جديدة من خلال إبادة دولة إسرائيل”. ونعم، حماس بصفتها تتقدّم حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية، دائمًا ما تتبنى خطاب استعادة كل أرض فلسطين ضمن مشروع النّضال المسلّح، لكن (نتنياهو) يتقصّد مثل هذه العبارات لاستثارة الرأي العالمي الدولي في تصوير حماس كمنظّمة إسلامية متطرّفة، تسعى لاستئصال إسرائيل من حيث كونها (دولةً يهودية) لا من حيث كونها دولة احتلال! في حين هي تعلم جيدًا ماهيّة حماس بالطبع، من كونها “حركة نضال فلسطيني وطني تحرُّري” ذات خلفية إسلامية، كما أن بقية الفصائل المسلحة لها خلفيات أخرى، لكنهم يشتركون في ذات الغاية.

يردّ عليه (خالد مشعل) – رئيس المكتب السياسي في حركة حماس – في مؤتمره الصّحفي والذي عُقِد في الدوحة بعد الحرب، حيث قال “نحن لا نعاديكم بسبب دينكم، ليس لدينا مشكلة مع أي دين تنتسبون، أو في أيِّ أرضٍ تقيمون، لدينا مشكلة مع الاحتلال والعدوان والإستيطان والتهويد”. هذا ما يهرب منه نتنياهو ورفاقه محاولين طمسه والتعتيم عليه ونبذه من الوعي العالمي، ليظهروا وبكل بلاهةٍ وعنت، رابطين هذا الخطاب الوطني التحرُّري، والمعتدل، بخطاب تنظيم الدولة داعش!

تتلخّص أخلاقية المقاومة أيضًا في الداخل الفلسطيني.. حيث ظهر تماسك السلاح الفلسطيني والقوة الفلسطينية في وجه العدوان، وامتثاله لإرادة الميدان، وعندما نرجع إلى القسام وحركة حماس بصفتها المُكوِّن الأكبر داخل القطاع والمُمثِّل عن الفصائل المقاومة والذي يحكم فعليًا في قطاع غزة، نجد وضوحًا في هذا الأمر، وتقديرًا لفصائل المقاومة على الأرض التي حملت السلاح بكل أشكالها، ليقول إسماعيل هنية – نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس من غزة – بعد الحرب “احتضنّا قوى المقاومة، شرَّعنا سلاحها، أعطيناها المدايات اللوجستية والاستراتيجية، وفّرنا لها الأمن، لاحقنا العملاء الذين يحملون الخنجر في ظهر المقاومة، فتحية لكل الكتائب، ولكل الفصائل، ولكل السواعد، ولكل البنادق”. ثم عرَّج على ذكر أسماء الفصائل المسلحة المقاتلة في غزة فصيلاً فصيلاً.

هذا الخطاب التضامني الوحدوي المسؤول، الذي لا يحتكر الفضل لفصيله فقط دون البقية، ولا يختطف ثمرة النضال لنفسه بل يشاركها مع الآخرين ممّن يناصفونه الدم والفداء، يدعم – بلا شك – ركائز البيت الفلسطيني، ويعكس عمق وحدته، ويبني جداره العازل في وجه كل المحاولات لإبطال سلاح المقاومة عبر شقِّ صفوف حامليه، وهو بلا شك، يعكس رصيدًا أخلاقيًا عاليًا لدى المقاومة وقياداتها.

ولنا في الحكيم (جورج حبش) الذي يعكس أدبيات “الجبهة الشعبية” سابقة، حيث يكتب حبش في مذكَّراته بعد سرده لأحداث خطف الطائرات الشهيرة في سبتمبر من عام ١٩٦٨م، وكيف آل مخططهم الذي عَمِلوا عليه أسبوعًا كاملاً، من العملية وصولاً إلى المفاوضات، وحتى الفشل من تحقيق مطلبهم في تحرير سجناء فلسطينيين في سجون الاحتلال، يقول “وهنا أريدُ أن ألفِت الانتباه، إلى أننا (لم نفكِّر لحظةً واحدة)، في المساس بحياة الرهائن، وأن العملية قد انتهت دون أن تُراق فيها نقطة دمٍ واحدة”. وبالفعل، فقد كان ما قال، تم إتلاف الطائرات بعد إفراغها من الرَّهائن الموجودين على متنها، حتى الذي يحمل جوازاتٍ إسرائيليةٍ منهم.

“لا توجد أي مقارنةٍ بين مقاومة غزة بفصائلها وبين داعش. هذه ديماغوجيا رخيصة، هم يدركون أنها كذلك. لدينا شعب في غزة يقاوم، وشعب مسؤول ولديه خطة سياسية، ولديه طرح، وأدار شؤونه سنواتٍ طويلةٍ تحت الحصار. نحن نتحدث عن شعبٍ، لا عن “الدولة الإسلامية” وما تفعله في صحراء بلاد الشام والرافدين، خارج أي سياق وطني أو قومي، وليس له أي علاقةٍ ببنية الدولة أو المجتمعات الحديثة، أو حتى المدنية”، يقول عزمي بشارة مرة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق