الثلاثاء، 5 مارس 2013

لا أريد أن أدفن كالقطط ياربي!




كتبتُ بتاريخ ٧ يناير ٢٠١٣ على تويتر "لا أريد أن أدفن كالقطط ياربي!"، وكنت وقتها في حالة مزاجية مؤسفة بعد وفاة صديقي (رعد خالد) يوم ١٦ ديسمبر ٢٠١٢ ذا العشرين ربيعًا في حادثٍ مؤسف. كنت وقتها أستحضر زيارتي الأولى لتلك المقبرة التي تضمّه وتضم بعض الرفاق، حيث للتو انفضت الجموع عن مراسيم العزاء بأيامه الثلاث، وانتهى المشهد الأكثر ضبابية، المدعّم بالاحتمالات، المزدحم بأسئلة من قبيل "هل كل ما حصل؛ حلم يا ترى؟"، وأمنيات من قبيل "يارب أي نعم". نعم كل ذلك انتهى، وأنا الآن في المقبرة بجوار صديقي.

كنت أول من عاد إليه بعد دفنه، لقد ساقتني قدماي وقت الغروب هكذا إليه، أراد القدر أن أكون أنا حلال الألغاز الذي "يعثر" على قبره! نعم، شيء من هذا القبيل، فأنتم تعلمون - أحسن الله عزائي وعزائكم - أن القبور في هذه البلد غير معلّمة. لقد بدأت فعلا بالبحث عن قبر صديقي الذي دُفن قبل أسبوع آنذاك، ولا أنسى سؤالي لحارس المقبرة والمشرف على عمليات دخول الجنائز وأماكنها "فين هذا قبر مسجد عمر بن عبد العزيز في هيئة ملكية قبل أسبوع؟" نعم، هكذا نبدأ بلمس أول الخيط للعثور على مراقد أحبابنا من والدين وأصدقاء وأبناء في هذه البقعة من الأرض، تكهنات، وفك شفرات. أشار لي أن هناك، ذلك الصف، أحد تلك القبور الرطبة، يا إلهي، هذا أقصى علمه!

أصبت بوخز شديد في قلبي عندما ظهرت احتمالية ألا أجد قبر (رعد)، وأقسمت بحنقٍ شديد أن أجده. وفي الحقيقة، إن العثور على فقيدك من عدمه لا يعني شيئا محسوس، أي أن أمواتنا لن يخرجوا من قبورهم عندما نعثر عليها ويشكروننا بحرارة ويتناولوا معنا كوبًا من القهوة وبعض الحلوى ويعودوا، لا، ولكنه شيء عميق جدًا، ومكنون لا يعلمه إلا من تعلق في فقيده التعلق الشديد، إنه حضور العاطفة والإحساس والضمير، إنه الخيال والألم والشعور بالتقصير، إنه حاجة إلى القرب والتودّد إلى ذلك الطريح ومناجاته، إنه شيء ثمينٌ فعلا، وجوهريٌ فعلا، وسامٍ جدًا. بمجرد أن يخالجك شعور بأنني أبالغ في هذا، أنصحك فعليا بعدم إكمال القراءة، لأنه سيكون شيئا ليس ذا بال!

ظهرت قدرات "كونان" على محياي، فمذهب كونان هو الأمثل للتعامل مع مثل هذا المشهد البائس، تضع كل أوراقك، كل أوراقك، ثم تبدأ بإعادة ترتيبها، هذا ما فعلته. ألهمني الله وتذكرت لقطة أخذها أحدهم يوم الدفن، هكذا، وإلم يكتب القدر أن يلتقطها ذلك البطل، للم نعرف والله أين ينام (رعد) إلى اليوم! أخرجت هاتفي، فتحت اللقطة، ياه! إنه عمود الإنارة هناك! جهة "البلوك" الأمامية والخلفية! نعم هكذا بدون مبالغة. وجدت قبر صديقي، ولا تسألوني عني حينها. عدت إلى ذكرى اليوم الأول. شعور بالفرحة أن وجدته، ونزف لم يتوقف لطعنة ذلك الخنجر الآثم.

نعم، أربع مقاطع استنفذتها لكي أحكي لكم حكاية عشتها بنفسي، تكررت آلاف المرات، ولكن باختلاف بسيط في السيناريو، بتفاوت في قدر الألم، ألمي على فقده يتضاعف عند آخرين إلى ألم فقده مرتين، فلا يعلمون أين ينام ذلك الذي قضى بينهم ومعهم شطرا عظيما ومهما من حياتهم، كان بينهم هذا الراقد هناك لوحده، وبكل بساطة يضيع!

تغريدة لصديقي عادل الهذلول، وقد فقد قبر جدته!

إنه القهر، والظلم، والإمتلاء حد الإختناق بكل أشكال وصور الإنفعال والشحن العاطفي، والعقلي أيضا، فلمَ يدفن بنو البشر في هذه البلد هكذا؟ لم يدفن الأصدقاء والأحباب والآباء والأمهات والإخوة والأخوات بهذه الطريقة غير اللائقة. لا أسخف من السخف إلا افتراض أن يأتي أبنائي وعبر حكايتي لهم عن صديقي هذا ليقيموا صلاتهم فوقه ويتخذوه معبدا، بالله عليكم دعوا ضوضائكم وحماقاتكم هذه جانبا، فتنزلا، ولو كان ذلك صحيحا؛ لانقلب العالم كله متدينا يدين لهؤلاء الميتين، ولانقلب كل الأحياء عبادا للأموات، ولو كان ذلك، لاختفت كل الأديان وبقي كل واحدٍ عند فقيده يتعبّده ويسبح بحمده! في حين أن المشهد مختلف في كل دول العالم كل الإختلاف، الشرقي والغربي. يزوره، أو يزورها، حاملا باقة ورد، ومشاعر جياشة، وقلب خاشع، يضع باقته، يرسل رسائله، ويعود إلى حياته طبيعيا. نحن نتوجّس أكثر مما تحتمله كلمة (التوجس) ذاتها من معنىً، نحن نفترض افتراضات عظيمة ومذهلة يا قوم. كف عنا هرائك (يا ذلك المذهب!)، وكفوا عنا وساوسكم يا أتباعه، ودعوا الناس وشأنها تعيش بعفوية كسائر بني البشر!

قبر (بلقيس الراوي) زوجة نزار قباني.

لا أدري أين الجُرم، ونحن في القرن الواحد والعشرين، في أن يُكتب على قبر ذلك المخلوق المعجزة، صاحب التاريخ والتأثير والحضور الحسي والمعنوي في حياة الناس يوما، اسمه، وتاريخ وفاته مثلا، وآية من كتابنا المقدس القرآن الكريم، كما تفعل البلاد الإسلامية حولنا، مالجرم في ذلك أخبروني؟ أين قال الله لا تفعلوا هذا؟ أين جُرّم في تراثنا الديني فعل هذا؟ إنهم يخرجون لنا أحكاما دينية مذهلة بطريقة "البحث عن الشعرة البيضاء في جسم الحصان الأسود!"، إنهم يقطعون بكل شيء، ويدخلون الدين في تفاصيل التفاصيل، مما سكت عنه الدين.

نعم لا أريد أن أدفن كالقطط ياربي، مع إيماني بأنه سيأتي اليوم الذي تسوّى فيه قبورنا في هذه البقعة من الأرض بقبور العالمين، ستعود قبورنا قبورًا تليق بمسيرة وحياة من ماتوا من المعجِزِين فيها، وتليق بمشاعر الزائرين أيضا، حملة الحنين والرسائل والذكرى والأشواق. وقت فقط، وعندما أقول (ستعود)، فإنني أعني ما أقول.

وداعًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق